مصطفى حفيظ

هناك ملفات المسكوت عنها في العلاقات الجزائرية الفرنسية، وحتى لو طرح ملف الذاكرة بين الدولتين خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون إلى الجزائر، إلا أنّ فرنسا الرسمية لا تريد أن تُطرح مسائل محرجة على طاولة الحوار على أعلى مستوى، أبرز الملفات المسكوت عنها هي قضية التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، والتي تمت في سنوات الاستقلال بحكم اتفاقيات ايفيان التي سمحت ببقاء الجيش الفرنسي في الصحراء الجزائرية فترة معينة، بقي هذا الملف طيّ الصمت برغم ضحاياه من سكان الصحراء الجزائرية، وها هي اليوم، بعض المنظمات الدولية والفرنسية تطالب ماكرون بتحمل مسؤولياته في هذا الموضوع لإرساء علاقات قوية مع الجزائر، فهل يفعل؟

بالنسبة لفرنسا، تأسيس علاقات قوية مع الجزائر مبني على معالجة ملف الذاكرة بما يخدم مصالحها دون تقديم تنازلات حساسة، لأنه من المعروف بأن ملف الذاكرة العالق منذ مدة، يبقى الأكثر تعقيدا بحكم أن الدولة الاستعمارية بالأمس لا تريد الاعتراف بشكل صريح بجرائمها طوال فترة احتلالها للجزائر إلى غاية الاستقلال، ثم إنّ ماكرون، الذي زار الجزائر مؤخرا، جاء يبحث عن إعادة المياه إلى مجاريها، لكن هل جاء مستعدا لتقديم تنازلات وفقا للرؤية الجزائرية للحلّ، أم إن الأمر له حسابات أخرى بعيدة عن تصريحات المؤتمرات الصحفية، أي ملفات شراكة ودبلوماسية، كالأزمة بين الجزائر واسبانيا أو الخلاف بين المغرب والجزائر؟ المهم، أن أكبر مسألة يمكن أن يطرح، مع أنها لم تطرح، هي قضية ضحايا التجارب النووية في الصحراء، أو بعبارة أدق، جرائم فرنسا ضد الإنسانية في الصحراء الجزائرية، يتعلق الأمر بتلك التجارب التي قام الجيش الاستعماري في رقان بالجنوب الجزائري بين سنوات 1960 و1966.  

قبل زيارته بيوم، خرج فرع فرنسا في الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية "آيكان" ومعه مرصد التسلح بفرنسا في بيان مشترك نشرته وسائل اعلام فرنسية، يطالب فيه ماكرون بتحمل "مسؤولياته فيما يتعلق بالإرث الإشعاعي للدفع نحو علاقات فرنسية-جزائرية سليمة"،وتجارب فرنسا النووية في صحراء الجزائر هي حقيقة لا يمكن انكارها، ومخلفاتها فظيعة، حتى أن ضحاياها من كل الفئات العمرية، نساء، شيوخ، أطفال. يجب أن نعرف ما هي هذه التجارب النووية التي راح ضحيتها مواطنون جزائريون كانوا أسرى لدى الجيش الفرنسي، ووفقا لتقارير سرية حول هذه التجارب، فإنّ 150 أسيرا جزائريا كانوا ضحايا أولى التفجيرات النووية بمنطقة رقان بالصحراء، ثم توالت التفجيرات ليزيد عددها عن مئة تفجير، كلها خلفت ضحايا من المدنيين، وكانت آثارها مدمرة على السكان، ما تزال الاشعاعات في المنطقة بسبب النفايات النووية ذات النشاط الاشعاعي العالي الذي ترك آثارا على السكان ما تزال أضرارها حتى اليوم.

قيل الكثير عن هذا الموضوع، وكتبت العديد من التقارير والبيانات التي أصدرتها جمعيات ومنظمات جزائرية وحتى دولية تطالب بتوضيح حقيقة هذه الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في حق الجزائريين في الصحراء، وتحمّل فرنسا لمسؤوليتها، وتعويض الضحايا، لكن اليوم، يعود هذا الرئيس نفسه إلى الجزائر في محاولة لتخفيف حدة التوتر، في وقت تراجعت وتيرة العلاقات بين البلدين على خلفية تصريحات أدلى بها الرئيس المعاد انتخابه لعهدة ثانية، إيمانويل ماكرون، الذي شكك فيها بتاريخ الجزائر قبل استعمارها من فرنسا، وما تبع ذلك من توتر وردة الفعل الجزائرية التي انتهت بغلق المجال الجوي عن الطيران العسكري الفرنسي نحو مالي، وغيرها من المحطات التي شهدها هذا التوتر بما فيها استدعاء السفير الجزائري في باريس، فهل سينجح ماكرون في إعادة بعث العلاقات والشراكة بين بلاده والجزائر، خاصة وانها عرفت تراجعا ملحوظا لصالح تركيا والصين، لكن، وهو الأهم، هل سيستجيب لمطالب هذه الهيئات التي طالبته بمعالجة شاملة للملف؟

في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده الرئيسان، اتفق الطرفان على انشاء لجنة مشتركة تضم مؤرخين من البلدين لدراسة الأرشيفات حول الاستعمار وحرب الاستقلال. لكن من خلال ما قاله ماكرون، يتضح بأن هذا الأخير لا يريد طرح مسألة التجارب النووية ومخلفاتها، لأنه ربط الفترة التاريخية التي ستعكف اللجنة على دراستها ببداية الاستعمار إلى غاية حرب التحرير، أي أن ما بعد حرب التحرير لا يعنيه، بما أن التجارب النووية معظمها تمت بعد الاستقلال،أو أن فرنسا لا تريد الاعتراف بجرائمها النووية بالأخص، لأن التكلفة ستكون ثقيلة في حال اعترفت، كون التجارب في حقيقتها هي جريمة ضد الإنسانية.

لعل الملف شائك فعلا لدرجة أنه لم يُطرح على طاولة النقاش بين الرئيسين، هل هو فعلا حساس لدرجة وضعه في خانة المسكوت عنه، أم فرنسا لا تملك شجاعة الاعتراف، بما أن منظمات جزائرية تنشط في الميدان طالبتها مرارا بالاعتراف بالجرائم والاعتذار للضحايا وتعويضهم، لأن الاعتراف قد يجرها إلى تبعات أخرى، ثم هل سيخذ دعوة هاتين المنظمتين بعين الاعتبار، فالمطلب في نظر هاتين الهيئتين المهتمتين بمناهضة انتشار أسلحةالدمار الشامل، هو أن تتحمل مسؤوليتها بشأن "الإرث الإشعاعي" الذي خلفته تجاربها النووية في صحراء الجزائر، الدعوة جاءت عشية زيارة الرئيس الفرنسي إلى الجزائر، على أساس أن هذا الملف يكنه في حال طرحه على طاولة الحوار أن يحلّ الجمود الذي تعرفه العلاقات بين البلدين، لأنه من غير المعقول أن تتقدم العلاقات إلى شراكة حقيقية وهناك مسائل عالقة لا تلقى طريقها إلى الحلّ، وهذه التجارب النووية هي أهم مسألة بالإضافة إلى الأرشيف والملفات الأخرى، لكن لا يبدو أن أي تقدم سيحدث، لأن تصريحات ماكرون في الجزائر لم تتناول الملف، ربما لا تريد فرنسا أن يراها العالم كمجرمة حرب ضد الإنسانية، ثم كم ستبلغ تكلفة التعويض، وكيف ستزيل آثار تلك الاشعاعات التي تسببت فيها إلى الآن؟ كل هذه الأسئلة يبدو أنها ستبقى دون رد واضح. ربما تخشى فرنسا ملاحقة المسؤولين الفرنسيين السابقين في حال فتح أرشيف التجارب النووية بالجزائر، وهو ربما سبب صمتها عن الأمر.

غير واضح إن كانت فرنسا الرسمية ستسهل عملية الحصول على الأرشيف الطبي للأضرار الناجمة عن الاشعاعات، ولا الخرائط التي توضح أماكن النفايات النووية المدفونة في الصحراء الجزائرية، وكان بيان هاتين الهيئتين قد نبّه إلى موضوع هام وهو أنمرسوم فتح الأرشيف المتعلق بالحرب الجزائرية المؤرخ في 22/12/2021 لم يتناول التجارب النووية، مما يعني أن المسألة تبقى في خانة المسكوت عنه، فلماذا ترفض فرنسا مثلا توسيع مسار رفع السرية عن أرشيف عن التجارب النووية في بولينيزيا لتشمل فترة احتلال الجزائر وذلك للسماح للمنظمات غير الحكومية والباحثين بالمعرفة الكاملة بتاريخ هذه التجارب،".

فجرت فرنسا بين 1960 و1966، 17 قنبلة نووية في صحراء الجزائر، قالت التقارير إن قوتها فاقت قوة القنبلة التي تم رميها فوق هيروشيما في 6 أغسطس 1945.