برهان هلّاك

دخل قرار إلزامية الشهادة الصحية، أو ما يعرف محليا بـ"جواز التلقيح"، حيّز التنفيذ في تونس في الثاني و العشرين من ديسمبر الجاري. و قد اثار هذا القرار استياء وغضب الكثير من النشطاء والمنظمات الحقوقية الذين اعتبروه "انتهاكا للحريات الأساسية" التي تكفلها مواثيق حقوق الإنسان، في الوقت الذي يرى فيه بعض الخبراء أن هذا الإجراء شديد الأهمية في سياق حماية البلاد من موجة وبائية مدمرة يعد بها هذا الشتاء

وينصّ المرسوم الذي أصدره الرئيس التونسي، قيس سعيد، في 22 أكتوبر 2021 على منع أي شخص يبلغ من العمر 18 عاما أو أكثر من الدخول إلى  المرافق العامة والمؤسسات الحكومية ومراكز الترفيه في حال ما لم يستظهر بشهادة صحية تؤكد تلقيه إحدى اللقاحات المضادة لفيروس كورونا والمعترف بها من قبل السلطات الصحّية بالبلاد التونسية. وقد ترجمت ردود الأفعال المناهضة لإجبارية التلقيح هذه تأرجح عملية التلقيح في تونس بين " الظنّة و رُهاب اللقاح " ومخاوف تبدو جدية من انتهاك المعطيات الشخصية و نقائص السلامة المعلوماتية على المنصة الرسمية للتلقيح، والتي أُثيرت عقب الاختراق الإلكتروني الأخير لمنصة "إيفاكس".

يعيش التونسيون على وقع ذعر تفرضه جائحة كوفيد ـ 19، وهو ما يجعلهم يجنحون في أغلب الأحيان إلى الظنة و التشكيك و الريبية المقوضة لأي مساع لإنقاذهم من وباء قاتل. ولذلك فقد انجرف "المتشككون" في التيار المضاد لارتداء القناع الواقي في المرحلة الأولى من انتشار العدوى عالميا و محليا، وثم شككوا في اختبارات الكشف عن العدوى، ليعربوا أخيرًا عن معارضتهم الراديكالية للّقاح و يعلنوا "مقاومة شعبية" لإجبارية التطعيم. إن تشكك التونسيين هذا غالبًا ما يخفي ريبية وعداء مطلقا أو مبدئيّا، و ذلك ما يجعل توصيف هذا النزوع برهاب اللقاح أكثر ملاءمة في هذا السياق؛ إن هناك نقطة واحدة لا شك فيها، وهي شك العديد من التونسيين في جدوى اللقاح و فعاليته أمام موت "لا مفرّ منه"، و بل و درجة أمانه بالنسبة لصحتهم. ولتجد السلطات الصحية نفسها في خضم معضلة حقيقية في ما يتعلق بمباشرة هذه الريبية العدائية التي لا تضرب عرض الحائط بضرورة تأمين العيش المشترك في مناخ صحي آمن و حسب، بل لا تلقي بالا بضرورة تصديق العلم باعتباره السبيل للنجاة من مثل هذه الآفات البيولوجية.

ومن الملاحظ بروز طرافة في مباشرة التونسيين، أو بعضهم على الأقل، لمسألة التطعيم ضد فيروس كورونا تحديدا. فالكثير من المشككين و الريبيين منهم لا يتحدون العلم وجهاً لوجه بعبارة "آلان غاريغو"، بل يعرّضونه للشك فقط. إنه ضرب من المكر المنهجي قائم على إحالة العلماء إلى مبادئهم الخاصة إذ يختلط الشك الرّيبيّ، الذي يمارسه التونسيون، بالشك المنهجي الذي هو فعالية منهجية تخص العلماء دون غيرهم؛ مثلا، لا يقول هؤلاء التونسيون أن العلماء الذين انكبوا طيلة فترة عام و نصف على ايجاد لقاح آمن و فعال ضد الفيروس مخطئون، و لكنهم يقولون أن ليس هنالك إجماع على فعالية هذا التلقيح و"صدق نواياه" بدليل وجود علماء معارضين لهذه اللّقاحات. إنهم يستغلون في ذلك وجود أفراد نادرين في مجال البحث العلمي يثورون على ما يعتبرونه ظلما وعدم اعتراف بمكانتهم و مجهوداتهم، ويجدون فرصة للتألق في المنابر الإعلامية الغوغائية التي يبرهنون فيها على أن معتقداتهم الدينية، مثلا، هي على خلاف مع العقلانية والموضوعية العلمية.

كما لا تقتصر حجج "فلاسفة الظنّة باللقاح" هؤلاء على رفض كل منتوج للبحث العلمي الرصين فحسب، بل على العكس من ذلك فإنهم يظهرون معارف محددة و يسوقونها على أنها دقيقة و نتاج لأبحاث شخصية؛ يرسم ريتشارد هوغارت، وهو عالم اجتماع منزعج بشكل جلي من مثل هذه الاندفاعات، صورة قاسية لهذه الملامح في سياق حديثه عن الأشخاص العصاميين الذين "يعرفون عن علوم الإنسان وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي ما يكفي للتدخل بالتشكيك الرّيبيّ في أي موضوع يتم طرحه". وكأننا بهوغارت يتحدث عن هؤلاءن التونسيين المتشككين و المذعورين عندما يقول بأنهم أطفال تائهون في عالم مليء بالمعلومات المجزأة والشائعة والتي لا تمت بأي صلة لأي عمل علمي رصين وموضوعي.

وباعتبار أن التونسيين المتشككين هم غالبًا ما يكونون نشطاء على شبكة الانترنت و منصات التواصل الاجتماعي، فهم عادة ما "يبحثون " و"يمحصون" المواد و المقالات و الورقات البحثية والمقالات والمقابلات الصحفية مع متخصصين "أقل شرعية في النظام العلمي و أكثر تمثيلية في الفضاء السيبراني" كما يشير إلى ذلك الكاتب "آلان غاريغو"؛ إن اجتماع النزعات العاطفية المدفوعة بالذعر مع ما تعتبره إسنادا علميا يمثل في عديد البلدان بشكل عام، وفي تونس اليوم بشكل خاص، ترجمانا عن اللاعقلانية المعاصرة.

كما تتعاظم نزعة رفض إجبارية التلقيح، واللقاح أصلا، في تونس بعد أن دعت منظمة أنا يقظ I Watch إلى تأجيل تطبيق المرسوم الرئاسي عدد 1 لسنة 2021 المتعلق بإجبارية الاستظهار بجواز التلقيح (الشهادة الصحية) إلى موعد لاحق. إذ صرّحت المنظمة في بلاغ لها بورود تبليغات عن اختراق منصّة إيفاكس الالكترونية (منصة الحملة التلقيح الوطني الرسمية بتونس) والتلاعب بمنظومة التلقيح عبر إسناد جوازات التلقيح لغير مستحقيها. وأوضحت المنظمة أنها قامت بالتثبّت من صحّة هذه التبليغات و بمعاينة التجاوزات الخطيرة. لقد تمكّنت هذه المنظمة بالفعل من الولوج إلى منصة إيفاكس، وبالتحديد إلى القسم الخاص بأعوان وزارة الصحة التونسية، وذلك إثر الحصول على اسم المستخدم وكلمة العبور المشتركة بين جميع الأعوان والتي كانت كلمة مرور تسهل قرصنتها.

كما أشارت المنظمة إلى أنه يمكن لأي كان الحصول على كلمة العبور الموحّدة و اسم المستخدم و بالتالي الولوج إلى قاعدة بيانات المنصة الإلكترونية الرسمية والاطلاع على المعطيات الشخصيّة للمواطنين. كما يمكن كذلك تغيير مواعيد التلقيح ونوع الجرعات   بل وحتى التصريح بالمخزون المتوفر من الجرعات وتأكيد تلقّي الجرعات، وصولا إلى إسناد جوازات تلقيح وهميّة. واستنكر عديد التونسيين ما اعتبروه استهتار وزارتي الصحّة وتكنولوجيات الاتصال التونسيتين بالمعطيات الشخصيّة الحساسة للمواطنين من جهة أن قاعدة البيانات تشمل معلومات صحيّة مشمولة بالسريّة. وإنه من الاستهتار بمكان بالفعل ألا يتمّ تمكين المتطوعين وموظفي وزارة الصحة من نفاذ محدود زمنيا إلى منصة ايفاكس وتغيير كلمات العبور بمجرد انتهاء مهام المتطوعين أو المكلفين بتسجيل و تلقيح المواطنين؛ لا يمكن حتى الحديث عن محاسبة أو تقصّي الخروقات و الانتهاكات باعتبار أن تواجد كلمة عبور موحّدة بين جميع الموظّفين و المتدخلين في عملية التلقيح لا تتيح تحديد المسؤوليات في حال صدور تجاوزات.

في الأخير، يكشف المتشكّكون الريبيون من التونسيين عن خوف دفين. بالطبع هم لن يعترفوا بأن إحجامهم عن الحصول على حقنة اللقاح نابع من خوف طفولي من الإبر، ولعل ذلك صحيح بالنسبة لبعضهم، ولكنه سبب مستبعد. بل يتملك هؤلاء ذعر أعظم يخيم على حيواتهم فيصيّرها نكدا دائما؛ إن تشكّكهم هذا هو نابع من رغبة يائسة في نفي الكوارث المعلنة و القائمة كما يصوغ ذلك "مانكير أولسون" في كتابه "منطق الفعل الجماعي". إن الأنباء عن تواصل العيش في ظل الوباء والموت والعذاب طالما لم يستكمل التونسيون جرعات اللّقاح هي أخبار سيئة يكون رد الفعل المبتذل عليها هو الاختباء في حالة من الإنكار المرضي. وبالتالي فإن عدم تأمين منصة التلقيح الرسمية "إيفاكس" مثلا سيكون إحدى الحجج المدعّمة لمواقفهم تلك، ليقولوا بأصوات موحدة وفي سذاجة طفولية غير مستساغة "كيف تحمينا وأجسادنا دولة غير قادرة على حماية معطياتنا على موقع انترنت؟!"