برهان هلّاك

أعلنت هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي يوم الإثنين 7 فبراير 2022 عن اعتزامها عقد ندوة صحفية يوم الأربعاء الموافق لـ 9 فيفري الجاري على الساعة التاسعة والنصف صباحا. وقد صرّحت الهيئة بأن الندوة ستتعلّق بالإعلان عن مستجدات قضية الجهاز المالي السري لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وما أكّدت أنه سقوط مدوٍّ للحماية القضائية والتستّر المؤسسي على حقيقة ملف إغتيال الشهيدين. وهو ما جرى بالفعل حين اتهمت هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بتبييض الأموال رفقة نجله معاذ الغنوشي، وذلك خلال الندوة الصحفية التي كان أعضاء الهيئة قد أعلنوا عن عقدها في وقت سابق. وأما عن حاصل هذه الندوة فيتعين تحديد محورين كبيرين تتنظم في إطارهما كافة المعطيات التي تم تقديمها خلال الندوة.

يتمثل المحور الأول في مسارات ما أسمته هيئة الدفاع بالحماية القضائية، أي تعطيل سير الأبحاث والتدخل السافر في مجريات الأمور القانونية والقضائية بهدف دفن الحقيقة عبر حرمان هيئة الدفاع من حقها في الولوج إلى القضاء والاستفادة من كل المؤيدات. وتحدثت عضو هيئة الدفاع، إيمان قزارة، خلال تقديمها لأهم محاور الندوة عن وجود جهاز سري مالي يتعلق بالغنوشي، إضافة إلى التخابر مع الغير من أجل الاعتداء على الوطن. ولتؤكد هيئة الدفاع عن الشهيدين على أنها قد تقدمت بشكاوى بها تهم موجهة لعدد من القضاة وعلى رأسهم وكيل الجمهورية (المدعي العام) السابق بشير العكرمي المقرب من حركة النهضة التونسية، وذلك بخصوص خلق تعطيلات للكشف عن قتلة الشهيدين.

وقد صرّح عضو الهيئة الوطنية للدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ورئيس جمعية المحامين الشبان، طارق الحركاتي، بأنّ الجمعية كانت مواكبة لملفات الشهيدين لفترة التسع سنوات المنقضية. وأشار إلى اضطلاع السلطة القضائية التونسية في عرقلة مجهودات هيئة الدفاع، ممثلة في ذلك بكل ما قام به وكيل الجمهورية السابق البشير العكرمي وأتباعه. كما كشف أنّ جرم هذا الأخير لم يقتصر على ارتكاب جرائم في حق ملف الشهيدين وحسب، بل ارتكب جرائم أخرى تنال من أمن الدولة عبر وضع نفسه على ذمة التخابر مع دول أجنبية وذلك بمقابل مالي من طرف هاته الدول.

وقد قرّر الرئيس التونسي قيس سعيد بحل المجلس الأعلى للقضاء، وهو مؤسسة دستورية تونسية ضامنة في نطاق صلاحياتها لحسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية. وفي ذلك شيء من الصواب باعتبار أن هذا المجلس لطالما كان ساحة للمحاصصة الحزبية وللتسويات القذرة على حساب العدالة والحقيقة. وكان أداة لتقاسم الغنائم والتنكيل بالحقوق العادلة كما أشارت هيئة الدفاع؛ لقد أكّدت هيئة الدفاع على أنها مؤمنة باستقلال السلطة القضائية، ولكنها معارضة لتركيبة المجلس الأعلى للقضاء حيث أنّ الانتخابات التي تنصب هذا المجلس بموجب نتائجها لم تكن دستورية. وبالتالي فقد بينت الهيئة أن هذا المجلس قد كان أهم العراقيل التي تحول دون كشف حقيقة الاغتيالات السياسية كاملة، وذلك عبر التدليس المادي والفبركة المعنوية وإتلاف وثائق بالملفات القضائية. وأعلنت الهيئة من هذا المنطلق عن تتبع قضائي ضد البشير العكرمي استأنفه القضاء العسكري بتوجيه تهم له تتعلق بجرائم الخيانة والتجسس والمساهمة في وقف وتعطيل أعمال تنصت كانت ستكشف سعيه وتورّطه ومعاونيه في جرائم الإغتيالات السياسية.

وتضيف المعطيات الواردة بندوة هيئة الدفاع والواقعة ضمن المحور الأول المتعلق بالتستر القضائي على ملف الاغتيالات تواطؤ البشير العكرمي مع قاضية التحقيق في المحكمة الإبتدائية بتونس، سعيدة الغربي، على دفن ملف الشهيدين. وكشف أعضاء هيئة الدفاع عن تقديمهم لـ 26 شكوى في حقّ 26 شخصا متورطا بالجهاز السري لحركة النهضة، وكان قد أحال منهم وكيل الجمهورية 10 أشخاص فقط على أنظار القضاء، وليتم تجاهل الشكاوى وعدم تتبع بقية الـ 16 شخصا الذين يكون راشد الغنوشي أحدهم رغم كونه " الآمر الأساسي ورئيس الجهاز السري لحركة النهضة ''.

كما فضحت الندوة إحالة ملف الجهاز السري على نفس قاضي التحقيق بالمحكمة الإبتدائية بمدينة أريانة، رشيد بالنور، الذي تعمّد المماطلة في النظر في ذلك الملف لمدّة سنة، مدعيا بأنّه " يجهز إستراتيجية خاصّة بالملف". وقد كان في حقيقة الأمر يستغل الملف للضغط من أجل إبطال نقلته من المجلس الأعلى للقضاء، وهو ما استجاب له المجلس المذكور. ويختتم أعضاء الهيئة بإيضاح حقيقة تكفّل قاضي تحقيق جديد، وهو مكرم المديوني، بملف الاغتيالات، بيد أنه لم يأت أي فعل بدوره، ولتتم الموافقة على مطلب نقله في إطار الحركة السنوية للقضاة من قبل المجلس الأعلى للقضاء. إن كل ذلك ليس قطعا من محض الصدف، بل هو دليل ومؤشر على تلاعب بملف الاغتيالات السياسية عبر توفير حماية قضائية للتستر على المخالفات الفادحة والمساعي الحثيثة لتعويم القضية وقبرها.

وأما عن المحور الثاني من المعطيات التي قدمتها هيئة الدفاع عن الشهيدين فهو متعلق بما بات يعرف الآن بالجهاز السري المالي لحركة النهضة التونسية. لقد اتهمت هيئة الدفاع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بتبييض الأموال رفقة ابنه، وأشارت إلى وجود جهاز سري مالي خاص بالغنوشي حسب ما أوردته تقارير صادرة عن المخابرات العسكرية. ولتكشف نفس تلك التقارير عن اضطلاع المدير العام للفرع التونسي لشركة الاتصالات العالمية "أوريدو"، منصور راشد الخاطر، بإجراء اتصالات مباشرة بزعيم الحركة راشد الغنوشي ونجله معاذ وتوليه القيام بتمويلهما بمبالغ كبيرة لم تخضع للأطر القانونية للتعاملات البنكية داخل تونس.

كما ذكر عضو هيئة الدفاع، رضا الرداوي، أنه تم تأسيس جمعية بتونس تحت إسم '' نماء تونس ''، وهي جمعية تضمّ عدة رجال أعمال وتهدف إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية. بيد أن التقصّي عن أمرها قد أفاد بتورطها في سنتي 2013 و 2014 في جرائم تسفير تونسيين إلى بؤر توتر بسوريا، وليتمّ فتح أبحاث جزائية في حقها. غير أن يد التستر الإسلامية سرعان ما قتلت جهود التحقيق في المهد وذلك عن طريق وكيل الجمهورية (المدعي العام) السابق بشير العكرمي؛ لقد تمّ إيقاف تلك الإجراءات وعرقلة المسار القضائي برمّته. كما ألحت الهيئة على التأكيد بأن بعض منتسبي تلك الجمعية كانوا معاضدين لمجهودات حركة النهضة في إدارة ملفّ تسفير التونسيين إلى بؤر التوتر. وبيّنت هيئة الدفاع عن الشهيدين ضخّ مبالغ مالية طائلة في حسابات بدولة قطر عائدة لأذرع الحركة بهذه الجمعية الذين هم على علاقة مباشرة برئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي باشر تلك الأعمال شخصيا.

لقد قدّمت الهيئة خلال الندوة إسما مهما في معادلة الجهاز السري المالي لحركة النهضة الإسلامية: ناجح حاج لطيف. إنه أحد الذين يديرون أموال راشد الغنوشي بوصفه عضوا قياديا مقربا منه بالحركة. لقد كان ناجح حاج لطيف وكيلا لشركة تنشط في مجال النسيج بالعاصمة تونس، وهو ما مكّنه من استعمال الحساب الإلكتروني للشركة في إدارة الأموال المشبوهة بالتعاون مع قيادات أخرى بالحركة . وتلقّت الجمعية أموالا طائلة من طرف الديوان الأميري القطري ليتمّ سحب تلك المبالغ نقدا بعد إيداعها في الحسابات البنكية للشركة من قبل ناجح حاج لطيف. وذلك ما تم اكتشافه بعد ورود العديد من الرسائل الإلكترونية على بريد الشركة وتمكّن هيئة الدفاع من الاطلاع عليها.

تمثّل كل المعطيات التي كشفت عنها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي خلال تلك الندوة الصحفية محطة أخرى تبدو محورية في سيرورة الكشف عن حقيقة جرائم الاغتيال. لقد تمت إضاءة شبكات التمويل التي دعمت النوايا والأفعال الإجرامية للجهاز السري، كما أماطت اللثام عن الحماية القضائية التي تمتع بها الفاعلون في هذه الحقارة الدموية واللوثة الإرهابية التي طالت البلاد وساكنتها.