أشرت مراراً وتكراراً الى ضرورة خلق بدائل اقتصادية حقيقية للاقتصاد الليبي بعيداً عن النفط ، كما كنت قد أشرت في اكثرمن مناسبة الى ضرورة بناء الانسان قبل بناء العمران (ولوكانت حجرة واحدة) ، فالتنمية البشرية في الحالة الليبية تمثل حجر الزاوية ، وانها اولوية بل ضرورة قصوى بالمقارنة الى التنمية المكانية.

من باب التعريف بالتنمية المكانية كان الكاتب فوزي عمار قد كتب مقالاً مقتضباً جاء فيه:- يعتبر مفهوم التنمية من أهم المفاهيم في القرن العشرين ولا يمكن للتنمية أن تكون تنمية مالم تحقق قيمة مضافة ، وما لم تأخذ في الاعتبار البعد المحلي لجميع المناطق بما فيها النائية، وأن تكون هذه التنمية مستدامة، ولذلك ظهر مصطلح التنمية المكانية الذي يحدد إمكانيات الإقليم وتموضعه داخل الإقتصاد الكلي، وكيف يمكن أن يحقق نمواً من خلال تحديد تنافسية القطاعات، خذ الاقليم البحري على سبيل المثال (كأساس للاقتصاد الازرق) فهو يستخدم الصيد البحري والسياحة الشاطئية كمحرك لباقي قطاعات الاقتصاد الكلي الأخرى، والإقليم الذي به تربة صالحة لصناعة الأسمنت و مواد البناء يجب أن يكون مركزنشاط صناعة مواد البناء كمثال آخر...وهكذا، وبالتالي فأنه وفقاً لبيانات صحيحة ودقيقة يتم إعداد خارطة اقتصادية وطنية شاملة تحدد بكل وضوح مصادر ومحددات الدخل القومي البديلة وكيفية توزيعها جغرافياً ، ولكن قبل ذلك لابد ولابد من أن يتم تعريف هوية الاقتصاد الوطني اولاً وبكل وضوح، وذلك بهدف خلق التنمية الصحيحية والمستدامة على المدايين المتوسط والبعيد، و من هنا يأتي دور الدولة او الحكومة في التوزيع الافقي للعوائد الكلية ، والمبنية أساساً على التخطيط و التكامل بين كامل مكوناته، وضرورة توفير البنية التحتية المتكاملة مع تسهيل إجراءات و تسجيل الأعمال من خلال ما يسمي ب Doing business index ، والتي تشمل على سبيل الذكر لا الحصر:- منح إعفاءات ضريبية وجمركية للاستثمار بالمناطق البعيدة والأقل حظاً بهدفين : الاول هو خلق تنمية مكانية ، والثاني هو تشجيع الهجرة العكسية من المدن الى خارجها.

إجمالاً فان كل هذا لا يتناقض مع أية رؤى مستقبليه للبلد، وهو يتوافق أيضاً مع رؤية البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) والذي يدعو إلى ضرورة أن تقوم الاقاليم والمحليات بتطوير مواردها الطبيعية والبشرية، وتسويق خصائصها المميزة، وبالتالي فانها ستفلح في فتح شراكات جديدة، وخلق بيئة إستثمار صحيحة وجذب مزيد من المستثمرين سواء كانوا محليين أو اجانب، وكل هذا يتوافق مع ما أكدت عليه أغلب الدراسات التنموية الليبية والتي دعت بكل جلاء إلى ضرورة خلق بدائل دخل غير النفط وذلك بالتركيزعلى مكونات وفرص الاقتصاد الجديد، وتنشيط القطاع الأهلي (الخاص) ، ومنح الاولوية للمشاريع الصغرى والمتوسطة، وذلك للحد من شأفة البطالة ولمعالجة تضخم الجهاز الحكومي وترهله، وللخروج من مأزق الاقتصاد الريعي المحفز لبيئة وثقافة الفساد، والمعتمد أساساً على مورد واحد يتميز بالنضوب وبالتذبذب وفق الأحوال والظروف العالمية خارجياً، أوالحالة الأمنية داخلياً، والجدير بالذكر أنني قد نشرت عبر بوابة افريقيا الاخبارية خمس مقالات على مدار العام 2018 وآخر سادس مطلع العام الجاري للحديث عن البدائل الاقتصادية الحقيقية والممكنة للاقتصاد الليبي بالاضافة الى التعريف بالاقتصاد الريعي ، والطريقة المثلى لادارة الصندوق السيادي الليبي في ظل تفعيل ادارة المخاطر به.

 إن المشكلة في ليبيا تكمن في عدم وضوح وتكامل السياسات Polices ، و أن الجميع يعمل في جزر منعزلةعن الآخرين ، والتي قد تنتج (غالباً)  تعارضاً في السياسات بين الإقليم المحلي (البلديات او المحافظات) والحكومة المركزية وذلك من خلال تكبيل المواطن بقوانين قديمة عفي عليها الزمن ، وأنها لم ولن تخدم التنمية الشاملة والمنشودة.

أشير في النهاية الى أن ليبيا قد خطت خطوة ممتازة قبل سنوات خلت ولكنها سرعان ماتراجعت فيها، وهي أنها قد استعانت بفريق من استشاريين عالمين على رأسهم البروفيسور مايكل بورتر (الاسم الاول في الادارة حول العالم) لتشخيص الحالة التنموية الليبية وذلك قبل العام 2006 فيما عُرف (برؤية ليبيا 2025) ، وبكل أسف فالبيئة الليبية كانت ولازالت ليست قابلة لهكذا أفكار فمابالك بتطبيقها، وبشئ من التفصيل: فقد جرى معالجة وتعديل الرؤية اكثر من مرة وفي اكثر منمناسبة من قبل المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي أنذاك، والتي شاركت فيها بالمناسبة مراكز البحوث وبالاخص الجامعات في سبيل وضع التعديلات (وفق المناخ السائد آنذاك) لتلأم بدورها العقلية السائدة ونمط التفكيرالمسيطر.

أختم بالقول أن هناك بعض الكوادر في مختلف مستويات الهرم التخطيطي والتنفيذي بالبلد تسعى لوضع (رؤية 2030) ، كما أن هناك مبادرات ورؤى أخرى تمتد إلى سنة 2040 ، ولكن أحوال البلد الآن والمعروفة للجميع قد تساعد نوعاً ما في وضع بدء رسم الخطط ولكن بعيداً عن الاضواء والضجيج والمناكفات، ولكنها لا تساعد بالمطلق على تنفيذ أي مخططات تنموية شمولية ولو أجزاء بسيطة منها، كما أجدد دعوتي من هذا المنبر الى ضرورة أن تكون التنمية البشرية هي الاساس والهدق البعيد للتنمية وانها مُقدمة على غيرها من أوجه التنمية المستدامة، وأن المخطط التنموي يجب أن يُبنى على دعم وتشجيع المشاريع الصغرى وتحفيز القطاع الاهلي وبعيد كل البعد عن النفط والغاز كموارد ريعية ووحيدة كما هو عليه الحال الان.


خبير اقتصاديات النقل