حميد زناز

صرح ساندر بيتشاي مالك غوغل منذ اسابيع أن الذكاء الاصطناعي  هو التكنولوجيا الأكثر عمقا التي بإمكاننا تطويرها و ستكون بنفس قيمة اكتشاف النار أو اختراع الكهرباء و سوف تغير الكائن البشري تغييرا عميقا. فما حقيقة هذه الثورة المرتقبة و إلى أي مدى ستغير إنسانيتنا و ما هي تبعات ذلك؟ 

شركة غوغل هي اليوم جنين الذكاء الاصطناعي. و لكن يظل ذكاء اططناعيا مرحا خاضعا للإنسانية ليس من الصعوبة إيقافه. و هو ما يطلق عليه الذكاء الاصطناعي الضعيف، الذي لا يملك بدون وعيا اصطناعيا . هو الذكاء الذي له تـأثير على حياتنا الاقتصادية و الاجتماعية و العلمية اليوم كما يتجلى مثلا في الهواتف الذكية و السيارات الخ. و هذا الذكاء الضعيف غير قادر على تقليد  استنباطاتنا الاكثر تعقيدا أو تجاوزها. و لكن سيظهر حسب علماء السيليكون فالي ذكاء آخر مستقبلا هو الذكاء الاصطناعي القوي و الذي بدأ يتجلى في ما يسمى بــــــ"التعلم العميق" و على الخصوص في التعرف على الصور . ذكاء يمكنه رؤية ما لا يستطيع البشر رؤيته فمثلا يستطيع تحديد جنس الفرد من خلال النظر في شبكية عينه و لا نعرف كيف!  

فما هو الدور الذي سيبقى للانسان  في عالم قد يسيطر فيه هذا الذكاء الاصطناعي القوي و ما بعد الانسان (المجهز بذكاء اصطناعي)؟ و كيف يمكن حماية الانسانية البيولوجية بضعفها و خصوصياتها أمام الآلات؟ تلك هي الأسئلة التي يطرحها المرتابون المناهضون لامبريالية الذكاء الاصطناعي المحتملة؟ 

و بما أنه ليس من السهولة إن لم يكن أصبح من المستحيل إيقاف زحف تطور التقنيات المتسارع، فعلى الأقل يقول البعض على الانسان الحالي أن يعمل على ضمان احتفاظه بالدور الجوهري ،دور القائد الذي ينظم و يسير عالما قادرا على تحسين نفسه و التقدم بدونه.عليه أن يسهر على الاحتفاظ بالرقابة من خلال وضع قواعد لمواجهة خطر انتفاضة الآلات الذكية.و هو ما تنبه إليه إسحاف أزيموف في الخمسينيات من القرن العشرين حينما كتب "ميثاق الإنسان الآلي". و هي الوثيقة التي استلهم منها سنة 2007الكوريون الجنوبيون مشروعهم المتعلق بصياغة ميثاق يضبط العلاقة بين الروبو و الانسان و حقوق وواجبات كل منهما تجاه الآخر و على الخصوص عدم وضع البشر في خطر من طرف الآلات الذكية. و قد تلى ذلك عدة مواثيق و دراسات و تقارير حول أخلاقيات التعامل مع الروبوتات في أمريكا و أوروبا. يذهب البعض حتى إلى القول بأن هذا التغيير الممارس على الانسان هو ربما الشرط الوحيد لإنقاذه و ضمان بقائه و استمرار نوعه. و بعضهم يعتبر أن "المابعد إنسانية" ستكون وريثة فلسفة الأنوار التي ستعوض الانسانوية أو الــــــ "هومانيزم". 

تصرف الملايير من الدولارات من أجل الوصول إلى هذا الذكاء الاصطناعي القوي الذي سيتفوق نهائيا على الذكاء الطبيعي ويستقل بذاته في حدود 2045 إذا ما صدقنا رأي كروزويل صاحب كتاب "كيف نصنع عقلا؟" والذي كلفته شركة غوغل لتحقيق هذا الحلم؟  و إن تحقق ذلك الحلم، يقول الفيزيائي ستيفن هوكينغ فهو نهاية الانسان الذي نعرفه إذ سيكون ذلك بمثابة الحدث الاهم في تاريخ البشرية و لكنه سيكون الحدث الاخير إذ ذكاء اصطناعي كهذا قد يتحرر بل سيطور تصوراته الخاصة بسرعة متصاعدة. و بما أن البشر محكومون بتطورهم البيولوجي البطيء فهم لا يستطيعون المنافسة و سينهزمون حتما في النهاية.   و من أجل ألا يحدث ذلك يوصي هوكينغ بتوخي الحذر  و العمل على تفوق الحكمة لأن مستقبلنا سباق مصيري بين تكنولوجياتنا و الحكمة التي نستعمل بها تلك التكنولوجيات. و لئن ولدت الرغبة في الابدية مع الانسان و كانت شهية المطلق دائما ملازمة له بسبب ضعفه و محدودية قدراته فتلك الحروب  و الكوارث الطبيعية  و الامراض التي كادت أن تقضي على وجوده على الأرض أشعرته بخطر الفناء و ضاعفت من توقه إلى البقاء وما العبر-إنسانية إلا محاولة لتجاوز ذلك الخطر المحدق به اعتمادا على العلوم الدقيقة و التقنية الحديثة.  تنبأ يوفال نوح هراري بأن الإنسان سيطاح به بفضل التقدم العلمي وخاصة البيولوجيا والمعلوماتية والخواريزميات الإلكترونية. يدخل الإنسان في عصر "الداتايزم"، بمعنى معالجة وامتلاك تدفقات البيانات الهائلة التي يخلفها أي مرور على الإنترنت تجعل السلطة التي كانت قديما ملك الإنسان تنتقل من الآن فصاعدا إلى الخواريزميات غير الواعية التي تعرف الإنسان أحسن من معرفته لنفسه والتي تبدأ في حرمانه من حريته شيئا فشيئا

فالذكاء الاصطناعي حسبه هو الآن أقوى بكثير من الذكاء الطبيعي أو البيولوجي، فهو يتفوق على أي طبيب متخصص في مرض السرطان في تقديم تشخيص واقتراح علاج، ولكن ما لا ينتبه إليه المؤرخ المغامر في مجال العبر-إنسانية أن هذا لا يعني فقدان الحرية فالطبيب يبقى هو العنصر الأساسي في العملية الطبية لأنه سيبقى دائما هو الذي يستعمل الذكاء الاصطناعي لصالح المريض، ما دام الأمر لم يصل بعد إلى الذكاء الاصطناعي القوي المجهز بوعي، بمعنى الواعي بذاته

في حالة الوصول الى  الذكاء الاصطناعي القوي مستقبلا ستكون الانسانية قد انجزت اهم اختراع على الاطلاق منذ ظهورها، خاصة اذا تمكن العلماء من زرع شرائح في الدماغ تمكننا من الاتصال المباشر في ما بيننا و منافسة الذكاء  الاصطناعي ذاته. "ما بعد الانسان" هو مزج الانسان مع الكومبيوتر. و حسب كورزويل فليس الآلة هي التي تصبح إنسانية بفضل الذكاء الاصطناعي و إنما الانسان هو الذي كان دائما آلة.و هو تصور كل الماديين الذين يعتبرون الدماغ مجرد آلية معقدة و ما الفكر سوى أثره المرئي. و من هنا جاءت فكرة نسخ الشبكات العصبية على الآلة للوصول في يوم من الايام إلى تحقيق ذكاء اصطناعي قوي أهم من الذكاء الاصطناعي الضعيف الذي نراه اليوم مجسدا و الذي بات يهزم أبطال لعبة الشطرنج،  فكيف سيكون ذلك الذكاء الاصطناعي القوي جدا في المستقبل ؟ فهل ستبقى الآلة التي تتفوق على الانسان آلة؟

سُئل أفضل 26 متخصصًا في العالم في مجال الذكاء الاصطناعي السؤال التالي: متى يتخطى الذكاء الاصطناعي العقل البشري؟ كانت إجابات مختلفة تماما انحصرت ما بين عامي 2029 و 2199. و لكن تبقى التكهنات التكنولوجية في أغلبها خاطئة فلا أحد مثلا كان ينتظر قدوم غوغل ، مواقع التواصل الاجتماعي ، السمارتفون، فايسبوك، المراسلات الفورية .. و من يدري  قد يصل الذكاء الاصطناعي القوي ربما في اقرب الاجال إذ علامات كثيرة تدل على أنه قادم