مصطفى حفيظ 

لماذا فجأة تحولت جماهير وسائل الاعلام عندنا في بلدان المغرب إلى محاكم أخلاق تطالب بوقف بث مسلسلات تلفزيونية في شهر رمضان بحجة انتهاكها لقدسية هذا الشهر؟ أو لقدسية التاريخ؟ أو لقدسية العرف الاجتماعي الأسري؟ علما أنّ مضامين السوشل ميديا من انستغرام وفيسبوك أو اليوتيوب أو تيك توك تعجّ بالمشاهد "الجريئة" من صور وفيديوهات أو منشورات، لكن لم تحدث ضجة وسط المشاهدين أو المتابعين لهذه المحتويات، ولماذا لا يفرق الجمهور بين ما هو عمل فني ابداعي وبين ما هو واقع؟ هل بات الفنّ في بلداننا المغاربية محل مساءلة من طرف جماهير السوشل ميديا التي تُجهلُ هويتها في الواقع؟ لماذا يُحاكمُ مسلسل درامي على تصويره مشاهد تُحاكي الواقع وتُشرّح مشاكله؟  

تتحول أنظار جماهير وسائل الاعلام في رمضان إلى ما تبثّه القنوات التلفزيونية المحلية من مسلسلات أو برامج هزلية أو أي عمل فني تبرمجه هذه القناة أو تلك، لجلب أكبر عدد من المشاهدات وتتويج هذا المسلسل أو ذاك كأحسن عمل تلفزيوني درامي ناجح، لكن أن يتحول الجمهور نفسه إلى نقمة على هذه الأعمال الفنية، فهذا الذي يستحق التوقف عنده، والبحث في جذور هذا التوجّه الجماهيري الجديد. ففي الجزائر مثلا، استجابت سلطة ضبط السمعي البصري لآراء المشاهدين وأوقفت بث مسلسل تونسي جزائري مشترك بعنوان "حب الملوك" بحجة أنّه يتنافى وقُدسية رمضان، المسلسل كانت تبثه قناة النهار الجزائرية، وهي فضائية خاصة، لكن يبدو أن بعض المشاهد التي بثت في إحدى حلقات المسلسل الرمضاني هذا أقلقت بعض المشاهدين، لأنها برأيهم تمس بقدسية الشهر الفضيل والقيم الأخلاقية للمجتمع الجزائري، ثم إنّ هذا القرار حسب ما ثبت من معطيات، جاء استجابة لتفاعل المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الذين طالبوا السلطات المسؤولة عن السمعي البصري في الجزائر بوقف هذا العمل.

نفس الشيء بالنسبة لمسلسل جزائري بثّته قناة الشروق الجزائري بعنوان "بابور اللوح"، وهو سلسلة درامية تشرّح واقع جزائري مرّ وهي ظاهرة "الحرڤة" أو الهجرة السرية عبر زوارق "الموت" كما تُسمى في الجزائر، حيث يُخاطر شباب من مختلف الأعمار عبر زوارق ويركبون البحر نحو أوروبا، هذا المسلسل حاول معالجة الظاهرة وإظهار ابعادها وأسبابها، لكن مع ذلك أثار الجدل وسط جماهير السوشل ميديا التي انتقدته بسبب تجاوزات "تمس قدسية شهر رمضان" بحسب سلطة الضبط أيضا، لكن القناة التي عرضت المسلسل تبرأت من المشاهد التي روج لها البعض. إذن، ودون التفصيل في هذا الحدث، يُلاحظ بأن الانتقادات تركزت حول مشاهد فاضحة، لكن لم تهتم تلك الحملة عبر السوشل ميديا لمحتوى المسلسل وابعاده الدرامية التي تُحاكي واقع مرير، هو ظاهرة البطالة والفقر والمشاكل الاجتماعية، ودوافع الشباب الذين يغامرون بركوب البحر، منهم بنات وذكور، وهذا ما يجب التركيز عليه، كان حريا بمن ينتقدون هذه المسلسلات أن يهتموا بالمحتوى أولا، ثمّ ينتقدون واقعهم البائس ويوجهون سهام اللوم للسلطات المسؤولية عن ظاهرة "الحرڤة" والبطالة والفقر، لا أن يطلقوا سهامهم على انتاج درامي يُحاول أن يواكب التطور الحاصل في العالم من حيث الدراما والسينما؟  

والمثير للاهتمام حقا في هذه المسألة ليس إيقاف هذا المسلسل أو ذاك، ومعاقبة هذه القناة أو تلك لمدة معينة وتقديمها للاعتذار للمشاهدين، وليست المشاهد التي تضمنها هذا المسلسل التي يراها المشاهد الجزائري بأنها تتنافى وقيمه الأخلاقية، بل إنّ ما يهمّ أكثر هو من هذا الجمهور المتفاعل عبر السوشل ميديا، والذي نجح لأول مرة في تحريك السلطات المسؤولة لاتخاذ قرار بوقف المسلسل المذكور؟ مع العلم أن مسلسلات سابقة وحتى برامج تلفزيونية ترفيهية وهزلية كانت بها مشاهد مشابهة ولو بأقل حدة، لكن لماذا لم يتحرك هذا الجمهور، الذي تُجهل هُويته عبر السوشل ميديا الآن، عندما كانت قنوات تلفزيونية مثل الشروق أو النهار أو القنوات الأخرى تُقدم برامج لا ترقى إلى مستوى الذوق العام وتتنافى مع قيم المجتمع؟ وخير مثال على ذلك، هو تقبل المشاهد الجزائري لبرنامج كانت تعرضه قناة خاصة يستضيف مطربة ملاهي ليلية تلبس ملابس فاضحة ويسألها مذيع البرنامج بكل حرية عن فنها الذي كان ممنوعا في التلفزيون الوطني الرسمي بحجة تنافيه مع الأخلاق والقيم، لماذا لم يتحرك هذا الجمهور عبر الفيسبوك واليوتيوب وانستغرام عندما كانت هذه القنوات تُقدم تلك البرامج؟ هل يتقبل المجتمع الجزائري فنانات "الكباريهات" على أنهن فنانات محترمات مثلا؟

هل تغيّر الذوق العام لدى المشاهدين فجأة وهم الذين لم يتذمروا يوما من التلفزيون العمومي في فترة التسعينات عندما كان يعرض على القناة الرسمية مسلسلات مكسيكية وبرازيلية وارجنتينية بعيدة كل البعد عن ثقافة المجتمع وقيمه الأخلاقية؟ وكنا نشاهد مشاهد وصور فاضحة تخدش الحياء أكثر من هذه المشاهد التي أثارت الضجة بسبب مسلسل "حب الملوك"، مع أنه مسلسل جزائري تونسي قريب من واقع الجماهير سواء في تونس أو في الجزائر، في اعتقادي أن ما جعل المشاهد يتذمر ليست تلك المشاهد الجريئة، بل لأنّ السوشل ميديا أصبحت أكثر تأثيرا في الوقت الراهن، لأنها متوفرة لدى ملايين المشاهدين، ويمكنها أن تغيّر من توجّهاتهم، لكن من يسيطر ويوجّه هذه الجماهير أكثر؟ هل هم أشخاص مهتمون فعلا بالمحتوى الذي تُقدمه الأعمال الدرامية سواء المحلية في الجزائر أو تونس، أو المغرب أو ليبيا؟ يقومون بالنقد من أجل النهوض بقطاع الإنتاج الدرامي التلفزيوني والسينمائي مثلا، أم أنهم جمهور يتسلل بينهم متدينون متشددون يقومون بحملات ضدّ الفن والابداع عموما؟

شهدنا نفس الحملات في تونس والمغرب أيضا، فمثلا مسلسل "براءة" التونسي، لقي انتقادات واسعة من الجمهور التونسي عبر السوشل ميديا، وعارضوا معالجة ظاهرة الزواج العرفي في مسلسل درامي في رمضان، وتحركت جمعيات تدافع عن حقوق المرأة وطالبت السلطات بالتحرك ضد الترويج للظاهرة، لكن منتقدون آخرون قالوا إن الفن الدرامي مهمته هو اظهار الواقع للجماهير من باب التوجيه والتحذير من تلك الظواهر، أي بعبارة أخرى، الأعمال الدرامية التي تظهر في رمضان، تحاول أن تحاكي الواقع، برغم سقوط بعضها في الرداءة والخروج عن الأهداف الحقيقية للدراما، فمثلا في المغرب ثار الجدل بسبب مسلسل تلفزيوني بثته قناة مغربية رسمية عن "فتح الاندلس"، وانتقدت فئات واسعة تناول المسلسل لتاريخ المغرب واعتبرته تشويها لبعض الحقائق، وليس هذا فقط، فهناك مسلسل آخر تعرض للانتقاد بسبب ترويجه للسيجارة الالكترونية، لأنه يُظهر شخصيات العمل الدرامي تستهلك في هذه السيجارة بشكل مبالغ فيه. مع ذلك، ما يجب قوله هنا هو لماذا فجأة تظهر حملات جماهيرية عبر السوشل ميديا في رمضان لتنتقد هذه الأعمال، على قلتها في بقية أيام السنة؟

ومهما كانت هذه الجماهير على حق في انتقادها لهذه الظاهرة أو تلك، أو هذا المشهد أو ذاك، من هذا المسلسل أو ذاك، إلا أن الظاهرة أصبحت مُقلقة من باب أنّ الأعمال الدرامية المغاربية على قلّتها تُواجه حملات شرسة غير مبررة في غالب الأحيان، لأن أيّ محاولة لأخلقة الفنّ من انتاج درامي أو سينمائي هو في نهاية الأمر مُحاولة لتوجيه هذا الفنّ لخدمة أيديولوجيا معيّنة، ويُقيّد من حرية الابداع بصفة عامة، وبالرغم من رداءة بعض الأعمال الدرامية من حيث السيناريو أو التمثيل أو حتى الفكرة التي تُعالج، إلا أنّ هذا لا يعني بأن كل الأعمال سيئة، ويبدو أن غياب النقد الفني في بلداننا المغاربية هو الذي أدى لظهور هذه الظاهرة التي غزت السوشل ميديا وهي النقد الافتراضي الذي يُجهل مصدره، قد يكون أشخاص من نفس المجال، أي منافسين في مجال الفن الدرامي والسينمائي، أو متدينين متشددين لديهم أيديولوجية معينة تهدف إلى محاربة الفن والابداع، وهؤلاء مؤثرون جدا في المتابعين وقد ينجحون في تشكل رأي عام خاصة عندما يتعلق الأمر بالأخلاق والدين. فهل باتت السوشل ميديا خطرا على الفن والابداع عندنا؟