عبد الستار العايدي

كشفت الوثيقة المنهجية لإصلاح المنظومة التربوية في تونس التي أعدتها وزارة التربية بمناسبة إطلاق "الحوار حول الإصلاح التربوي" خلال شهر أفريل  2015 ، أنَّ المنظومة التربوية تشهد قصورا حادا في أدائها وعثرات متعددة، وغياب رؤى إستراتيجية واضحة تتعلَّق بمختلف مكوّنات العملية التعليمية، وانعدام مرجعية وطنية للتقييم تستند إلى معايير ومؤشِّرات علمية، وكذلك ارتباكا على مستوى إدارة الشأن التربوي وطنيا وجهويا ومحليا، والافتقار إلى معايير الجودة وأدلَّة مرجعية لإنجاز مختلف الملفّات وضعف ثقافة التدقيق في مختلف المؤسّسات.

كان النظام التعليمي في تونس طوال النصف الثاني من القرن العشرين ،  منارة وسط العتمة الفكرية التي يعيش فيها العالم العربي، إلى حدود 1987،   حين استلم بن علي الحكم بعد الانقلاب على بورقيبة. ففي الفترة ما بين عامي 1987 و2011، أرسى نظام بن علي سياسات تعليمية تحولت على ضوئها المؤسسات التعليمية إلى مصانع لإنتاج العاطلين عن العمل، حيث ساهمت سياساته الاقتصادية الفاشلة والتغيرات الديموغرافية وتقليص الدعم للنظام التعليمي في تضخم معدلات البطالة التي ناهزت 16 بالمائة .

ولتعزيز المكانة الأكاديمية التونسية عملت السياسات التعليمية في عهد نظام بن علي على خفض المعايير الأكاديمية بالنسبة للتعليم العالي. مما تسبب ذلك في تضخم مؤهلات الخريجين وإغراق سوق العمل بالمتقدمين لوظائف وهمية لم يكن لها وجود إلى حد هذا اليوم، وفرض على خرّيجي الجامعات الجدد والباحثين عن وظائف في سوق الشغل قيودا لا خلاص منها إلا بالهجرة والبحث عن فرص عمل في دول أخرى في ظل وضع يقرّ أنه بإمكان شخص واحد فقط من كل أربعة من حاملي شهادة تأمين فرصة عمل.

ورغم هذا الوضع المتفاقم إلى الأسوأ، لا يزال قانون 2002 إلى الآن وبالتعديلات الطفيفة التي طرأت على بنوده هو القانون الذي ينظّم التعليم في تونس وساري التنفيذ، هذا القانون الذي انجر عنه انسداد الآفاق أمام نسبة كبيرة من المتعلمين العاطلين عن العمل وعجزت بسببه الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن إيجاد سبيل واضح لإصلاح شامل للتعليم.

وعلى ضوء ذلك تواجه تونس، اليوم، أزمة "جودة التعليم" ، فتزايد عدد أصحاب الشهادات من الجامعات التونسية لم يصاحبه تحسن في جودة التعلّم. وانحدر مستوى التعليم بدرجة كبيرة، بحسب المقاييس الدولية لجودة التعليم، مثل برنامج تقييم الطلاب الدولي (PISA) وتوجهات الإنجاز في دراسة الرياضيات والعلوم  (TIMSS)، وبحسب تقييم  PISA لعام 2015، جاء تصنيف تونس في المرتبة 66 من بين 70 دولة مشاركة في التصنيف، وجاء تقييم أغلب الطلاب المشاركين تحت مستوى الكفاءة التعليمية.

أما "البرنامج الدولي لتقويم الطلبة" في سنة 2013 فيشير إلى أن ترتيب التعليم الجامعي في تونس هو 103 من 195. وفي تقويم "منتدى دافوس" للمنظومات التربوية سنة 2019 كانت تونس في المرتبة السابعة عربيا، وفي المرتبة 84 من مجموع 140 نظاما تربويا . وفي تقويم "ويبوميتركس" سنة 2015 كانت جامعة المنار وهي أجود جامعة تونسيّة في المرتبة 2972 من جامعات العالم.

وحسب ما أظهرته بيانات الدورة السادسة من الباروميتر العربي، بتاريخ 20 أفريل 2021 ، "أعرب 70 بالمائة من التونسيين عن عدم رضاهم من المنظومة التعليمية"، هذه المنظومة التي أنتجت عقولا فارغة من المحتوى وسط أزمة تشغيل العاطلين عن العمل وسياسات اقتصاديه فاشلة.

وفي سياق ما أظهرته هذه الأرقام السابقة، يُقِرّ أغلب الملاحظين بكثافة المادة التعليميّة، وعدم مواكبة البرامج التعليمية للواقع، وعدم التلاؤم بين المراحل التعليميّة وبين المستويات على مستوى المادّة نفسها. وتُمثّل لغة التدريس أيضا إحدى الإشكاليات، ولا سيّما في المواد العلمية، إذ لم يشمل التعريب إلا المرحلتين الابتدائية والإعدادية. مشاكل قد تبدو بسيطة ظاهريا ويمكن معالجتها على المدى القصير، ولكن ما بطن من الأمر أن طلبة الجامعات الدارسين أو حاملي الشهادات المتخرجين هم في الأصل محصّلة لما أحدثته النظم التعليمية الفاشلة من دمار في تحصيل المعرفة على المستويين النظري والتطبيقي.

ولقد أكدت تقارير دولية أن عدد ضحايا نظام التعليم في تونس يتجاوز بكثير أعداد الناجحين، وأشار تقرير للبنك الدولي حول "فقر التعلم" إلى أن حوالي 65 في المائة من التلاميذ التونسيين، في سن العاشرة، لا يجيدون القراءة. كما كشفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في إحصائيات صادرة عنها أن 70 في المائة من تلاميذ تونس لا يجيدون الرياضيات و70 في المائة لا يجيدون العلوم.

كما أكد البنك الدولي في تقريره حول رأس المال البشري، سنة 2018 ، أن تلميذ السنة الأولى من التعليم الابتدائي الذي يبلغ من العمر 6 سنوات يتوقع أن يخسر 50 في المائة من قدراته ومدخراته بسبب رداءة التعليم في تونس.

وإزاء هذا الوضع المتردي، الذي يعيشه التعليم عامة وضمن سلسلة من المقالات التي نشرت بموقع المدونة البيداغوجية، قدم الأستاذ عبد العزيز الجربي متفقد عام للتربية، بتاريخ 05 أكتوبر 2015 ، أسس رؤية سياسية تربوية من شأنها تحقيق إصلاح شامل، هذه الأسس التي تمثّلت  في العنصر الفكري الفلسفي بمعنى القواعد التي تقوم عليها العلاقات بين الأفراد، والعنصر الإيديولوجي أي التوجّه السياسي الذي يقوم عليه نظام الحكم، والعنصر الأخلاقي القيمي وما كان منه ثاويا في الموروث الوطني وما جاءت به المنظومة الكونية لحقوق الإنسان بأجيالها المختلفة، والعنصر الاقتصادي متمثلا في النموذج الإنمائي والرهانات الاقتصادية والموارد المالية، والعنصر الديمغرافي متمثلا في التغييرات الحاصلة والمرتقبة في نسق نمو المجتمع وتأثيرها في التخطيط التربوي، والعنصر العلمي متمثلا في المعارف الخاصة بأنساق التعلم وطرائق اشتغال العقل والذاكرة وغيرها من القوى والملكات المتدخلة في التعلم، والعنصر التكنولوجي متمثلا في التكنولوجيات الجديدة ووسائل الاتصال المتطورة وغيرها من الوسائط التي يمكن توظيفها في عمليتي التعليم والتعلم، وأخيرا العنصر القانوني أي جملة القوانين التي لها صلة بالعملية التربويّة.

وقد أكد الأستاذ الجربي على "أن وضع السياسة التربويّة المستقبلية يستوجب تضافر جهود كلّ المربّين، إلى جانب أشخاص من المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، ويكون فيها للمجتمع المدني دور نشيط، كما يتبوأ فيها علماء البلاد في جميع الاختصاصات منزلة متميّزة، لما يختصّون به من قدرة على الاستشراف والتخطيط للمستقبل".

مثل معظم الأنظمة التعليمية في دول العالم الثالث، تسعى تونس لمسايرة الأنظمة التعليمية في الدول  المتقدّمة التي نجحت في تجديد مناهجها التعليمية دون مراعاة توافقات هذه المسايرة مع فداحة واقع التعليم في تونس وواقع المتعلمين في سوق الشغل. إلى جانب محاولة بعض وزراء التربية في تونس مسايرة إملاءات دول أو منظمات مانحة وإدراج مناهج تعليمية مسقطة دون تحليل نتائجها السلبية والإيجابية. فالمتعلمون هم اللبنة الأولى لبناء الدولة باعتبار ألا أسس صحيحة لمجتمع أو اقتصاد أو ثقافة أو لأي نظام سياسي حاكم دون وجود عقول منتجة، وهم أيضا اللبنة الأخيرة التي يجب توظيفها في المكان المناسب حتى لا يتداعى البناء كله، ويكون صاحب العقل المنتج هو العطالة نفسها.