لقد قاد التدخل الدولي (الإنساني)، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تحت مظلة حلف الناتو، إلى إطالة أمد الصراع وضاعف عدد الضحايا، ليقود في النهاية إلى تكريس المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان وتعميق المعاناة وإنتشار ظاهرة التطرف والسلاح والهجرة غير القانونية عبر ليبيا، بالإضافة الي تمزيق النسيج الاجتماعي وغياب الرؤية او تغييبها وتعطيل شامل وكامل لكافة خطي الإصلاح والتقارب.  فمنــذ الإطاحــة بالنظــام الأسبق فــي العــام 2011، كان مســار ليبيــا صاخبــاً، وشــهد التقــدم علــى الجبهـات السياسـية والإقتصاديـة والأمنيـة تراجعـا كبيـرا، مهـددا الإنتعـاش بمجملـه، ومتجهاً الي منعطف الحـرب الأهليـة فـي أكثـر مـن مناسـبة خــلال الأعوام الماضــية. وبهذا تصبـح منطقـة السـاحل والمغـرب العربـي الأوسـع أكثـر هشاشـةً حيث شـارف جنـوب ليبيــا علــى التحــول إلــى مــلاٍذ آمــٍن للمجموعــات المرتبطــة بتنظيــم القاعــدة والمرتزقة والمجموعات المطــاردة والمدعومة لدعم عدم الاستقرار وتحقيق مبدأ الفوضى.

إنعدام الأمن

قوض إنعدام الأمن الجهود الرامية الي عملية بناء الدولة وبناء مؤسسات سياسية وإدارية فاعلة، وقيد البصمة الدولية التي كانت أصلاً عند حدها الأدني، كما سهل توسع المجموعات المسلحة والجهادية ضمن ليبيا وفي المنطقة علي نطاق واسع ما مكّن مجموعات مختلفة وأهمها الإسلامية الأكثر تنظيماً والأكثر دعماً من بسط سيطرتها علي المنشآت الحيوية والقرارات السياسية والسيادية، مهددة بإنشاء دولة داخل دولة.

أشركت الأمم المتحدة بعض تلك الجماعات في العملية السياسية والأمنية والاقتصادية بدلاً من العمل علي  نزع السلاح وتقويض المسار، الامر الذي دفع الي مزيد من الإنفلات الأمني وتواصل الأعمال الإجرامية ضد كافة طوائف الشعب الليبي.

توقف عملية بناء الدولة وازدياد التحديات الإقتصادية

لم تكن ليبيا بالقوة التي وصفتها ودعمتها الدعاية الأوربية والأمريكية فترة المهادنة والإقتراب مع النظام الليبي الاسبق، بل كانت الدولة تفتقر لأدني المقومات الأساسية السياسية والإقتصادية والإدارية، الأمر الذي أصبح يشكل عرقلة وحاجزا للتحول المرجو من الثورة الليبية. وهو ما اشارت اليه الدراسة الأولية للأمم المتحدة "حول بيئة التخطيط لما بعد الصراع والي ضرورة أن تتجنب ليبيا الفوضى وتضمن بيئة تمكينية بشكل كاف للعملية الإنتقالية الهشة من أجل الإمساك بزمام الأمور". غير أن هذا التقرير لم يتم ترجمته والعمل به بواقعية لاسباب لم يفصح عنها بل تم معرفتها من خلال ما تقوم به متوالية البعثات الأممية. أصبحت الدولة الليبية، من خلال شرعية مهزوزة وغير مستقرة، حيث لم تخضع لأمرين أساسيين وهما الأمر الدستوري والقانوني، كما لم تكن علي توافق مع قاعدة شعبية عريضة، مما دفع مسؤوليها لدفع المنح والمكافآت والرواتب بغرض خلق شرعية محلية، ومصداقية لدي الشارع الليبي، وهبات ودية لكسب ولاءات الجماعات الضاغطة والمسلحة.

لكن هذا لم يدم طويلاً، فمع إستيلاء المليشيات علي المنشآت النفطية عام 2013، طرحت العديد من الأسئلة الحيوية والواقعية، والمتمثلة في حقيقة توجهات الأمم المتحدة ومصلحية الإنتفاعات الدولية، وقدرة الحكومات المحلية علي استمرار معالجة الأزمات، وأيضاً، مصير ومستقبل الاستقرار سياسياً واقتصادياً وامنياً.

تغذية عسكرية دولية وإنتشار رهيب للأسلحة

تغرق ليبيا بالأسلحة، وتشهد معسكراتها وشوارعها وبيوتها تلك الظاهرة، بما فيها الاسلحة المتوسطة والثقيلة، لقد ادي فتح مخازن الأسلحة للجمهور والشعب الليبي كارثة حقيقية، حيث قدر جهاز الإستخبارات الخارجية البريطانية "MIF6"، أن ليبيا تضم ترسانة أكثر من الترسانة الإجمالية للجيش البريطاني. لقد شكلت تلك المخزونات الرهيبة للأسلحة وما تبقي من مخزونات كيميائية لم يتم الإنتهاء من تصفيتها وفق اتفاق عام 2014، تهديدا للأمن الليبي والأمن الحدودي. 

مواقف المجموعات المسلحة بعد سقوط النظام

لم تكن قدرات المليشيات المسلحة قوية لدرجة ان تستطيع مجابهة قوات النظام حينها. أوضحت تقدمات تلك الجماعات والثوار ضعفاً، حيث لم تكد تصل الي مدينة البريقة غربي مدينة بنغازي، غير أن تواصل دعم بعض الجماعات خارجيا وداخليا أدي الي تعاظمها وانتشارها بعد الإطاحة بالنظام. لقد اختلفت التقديرات والتعريفات لتلك الجماعات بعد التحرير، كما تعددت مسمياتها ما بين كتائب ومليشيات ومجموعات مسلحة وغيرها.

المليشيات، الثوار، الجماعات المسلحة،،، رفض الإنضمام وترك السلاح: مسارات وتوجهات

رغم ان تلك الجماعات بصفة عامة لم تشكل تهديدا للأمن الوطني الليبي حينها أي أوائل الاحداث، بل كانت النوايا تتجه الي حماية الثورة، وهو ما تجلي باستعدادهم لترك السلاح والعودة الي حياة مدنية بادئ الأمر والذي لم يدم طويلاً، الا ان كثيرا من التطورات قد دخلت الي كياناتها معبرة عن ايديولوجيات مختلفة.

ذهبت بعض تلك الجماعات الي تساؤلات حقيقية، الا وهو لمن سيصل السلاح اذا ما تم التنازل عنه؟ ولأي سلطة شرعية يتم تسليمه، وما هي الضمانات؟ وهذا كان في مجمله، نتيجة تخوفات الإختلاف الجوهري بين الوطنيين والإسلاميين بصفة عامة، وتخوفات الثأر وعودة النظام الأسبق بصفة خاصة؟.

ذهبت جماعات أخرى إلى مسار وتخوف، يأتي مدلوله لمن سيترك الشأن الأمني في حالة ما تم تسليم المعدات والأسلحة والمواقع؟ومسار وطني آخر يذهب بأحقية حمل السلاح والدفاع عن المكتسبات الثورية، وحماية الأرض والعرض والبلاد.

في كل مسارات واتجاهات ونوايا تلك المجموعات المسلحة لم تكن التوترات قد بلغت ذروتها، وان كانت مستويات الثقة قد انخفضت، وبالفعل، وبالرغم من انضمام الكثير رغبة وحرصا على سلامة الأمن، الا أن بعض التقارير تشير الى ارتكاب البعض اعمال العنف غير المبرر.


كاتب ليبي 
الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة