برهان هلّاك

"الواجب المقدس يدفعنا لاتخاذ هذا القرار التاريخي حفاظا على السلم الاجتماعي وعلى الدولة"، هذا ما قاله الرئيس التونسي قيس سعيد يوم الأربعاء 1 جوان 2022 في اجتماع وزاري في سياق الإعلان عن عزمه على "تطهير السلك القضائي". وقد تُرجم هذا الإعلان إلى الواقع إثر ذلك عبر الأمر الرّئاسي عدد 516 والمتعلق بإعفاء قضاة من مهامهم، والذي صدر بالرائد (الجريدة) الرسمي للبلاد؛ لقد عزل الرئيس التونسي قيس سعيّد 57 قاضيا اتهمهم بالفساد والتواطؤ والتستر على متهمين في قضايا إرهاب

القضاة المعزولون متورطون حسب هذا التأكيد في تعطيل أكثر من ستة آلاف قضية تتعلق بالإرهاب والفساد المالي وتزوير أوراق رسمية والتستّر على مورّطين في الإرهاب، وحماية مسؤولين سياسيين وحزبيين من المحاسبة. وضمّت القائمة التي أعفاها قيس سعيّد أسماء قضاة تولوا مراكز قيادية في قضية الجهاز السري لحركة النهضة الإسلامية، ومن بينهم "يوسف بوزاخر" رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحل و"البشير العكرمي" وهو قاض يتهمه نشطاء سياسيون بأنه أخفى ملفات قضايا إرهابية وبارتكاب إخلالات قانونية في ملف الاغتيالات السياسية وبأنه على علاقة وطيدة بحركة النهضة الإسلامية. وإلى جانب العكرمي، تضمنّت القائمة كذلك الرئيس الأول لمحكمة التعقيب بتونس، الطيب راشد، وعميد قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس، عماد الجمني.

ويكشف توقيت إصدار قرار العزل بحق هؤلاء القضاة وبعض الأسماء الواردة في قائمة المعزولين عن دلالات مختلفة لعل أبرزها حرص رئاسة الجمهورية التونسية على بناء بيئة داخلية سياسية سمتها الاستقرار والهدوء في أعقاب ما يقارب سنة من الضجيج والسجالات والاتهامات المتبادلة، وذلك من أجل تعبيد الطريق نحو إجراء الاستفتاء على الدستور في 25 جويلية القادم.

وأما عن توقيت قرار العزل المذكور فإنه توقيت يبدو أنه تم اختياره بعناية وتخطيط مسبق، وذلك من جهة تزامنه مع عدة أحداث من أهمّها منع رئيس حركة النهضة الإسلامية ورئيس البرلمان المنحلّ، راشد الغنوشي، من السفر وحث مسار التحقيقات في جرائم الاغتيالات السياسية التي أودت بأرواح الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي سنة 2013؛ لقد صدر هذا القرار بعد أيام معدودة من قرار أخر سابق خصّ منع 34 شخصية من مغادرة البلاد، ومن أبرزهم “راشد الغنوشي”، وذلك في سياق استكمال التحقيق الخاص بقضية اغتيال الشهيدين. كما يأتي على إثر اتهام هيئة الدفاع عن الشهيدين لحركة النهضة بمسؤوليتها عن عمليتي الاغتيال اللتين نفذهما جهازها السري المكلف بإخماد أصوات المعارضين للحركة. وبذلك تتكشف دلالة أخرى لهذا القرار تشي بسعي الرئيس نحو مزيد تضييق الخناق على الحركة التي تجوب البلاد في الفترة الماضية بغرض التعبئة الشعبية ضد مسار 25 جويلية وضد الاستفتاء وقرار إنشاء الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة. ويأتي قرار منع زعيم الحركة من السفر على إثر توجيه اتهامات له متعلقة باعتدائه على الأمن القومي للبلاد والحصول على سر من أسرار الدفاع الوطني والاتصال بجهات مخابراتية أجنبية، إضافة إلى اتهامه بالقيامة بوساطات للإفراج عن أسرى لدى “جبهة النصرة” الإرهابية في استغلال لحصانته في ارتكاب هذه الجرائم؛ يزيد كل ذلك، مضافا إليه قطع الذراع القضائية للحركة داخل السلك القضائي، من حدّة الضغوطات الداخلية على حركة النهضة ومزيد تضييق الخناق عليها، وبالتالي مفاقمة أزماتها الداخلية وتهديد تواجدها السياسي المستقبلي.

وأما الأسماء الواردة بقائمة من تم عزلهم من القضاة فهي دليل آخر على أن الرئيس التونسي قيس سعيد ماض قدما في مزيد تثبيت أركان مشروعه السياسي الذي استهله بإعلان التدابير الاستثنائية في 25 جويلية الفارط. وتشمل هذه الأسماء على سبيل الذّكر لا الحصر رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ، يوسف بوزاخر، والذي كان من عتاة الرافضين لتركيز المجلس الأعلى المؤقت للقضاء في المدة الفارطة، والقاضي البشير العكرمي الذي يتهمه نشطاء سياسيون بأنه أخفى ملفات قضايا إرهابية وبأنه على علاقة وطيدة بحزب حركة النهضة الإسلامي، والطّيب راشد وهو الرّئيس الأوّل لمحكمة التعقيب الّتي تُصنَّف في أعلى الهرم القضائي والمتهم الأبرز في مسائل تعطيل مسارات التحقيق في قضية اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، بالإضافة إلى تهم تتعلّق بالإثراء غير المشروع والفساد المالي ومخالفة مبادئ النّزاهة

حسب ما يورده مقال منشور بموقع الحائط العربي، يتّهم الرئيس قيس سعيد بعض هؤلاء القضاة بتعطيل التتبع في 6268 ملفا ذا علاقة بالإرهاب، وعدم تطبيق الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية في ملف الجهاز السري، والامتناع عن فتح أبحاث جزائية في قضايا ذات علاقة بالأمن ولها صبغة إرهابية. وهو ما نتج عنه عدم إتاحة الفرصة للسلطات الأمنية بتتبع بعض المتهمين المتورطين في إنشاء الجهاز السري لتصفية المعارضين التابع لحركة النهضة، حيث أن قضية اغتيال محمد البراهمي وشكري بلعيد المنظورة أمام القضاء منذ عام 2013 لم يتم الحسم فيها حتى الآن، وهو ما يثبت تورّط هؤلاء القضاة في تعطيل مسيرة القضاء في البلاد بشأن قضايا الإرهاب "المركونة ملفاتها على الرفوف".

بالمحصلة، يثبت قرار الرئيس بعزل هؤلاء القضاة سعيه في التأكيد على امتلاكه القدرة على حسم الصراعات والخلافات القائمة بينه ومعارضيه لا سيما وأن الآونة الأخيرة قد شهدت بلوغ المعارضة السياسية لقرارات وتدابير الرئيس التونسي أعتاها، وذلك بعد أن تقارب، بل وتحالف، جمع من الأحزاب والقوى السياسية والمدنية في إطار جبهة الخلاص الوطني التي رفضت ونددت بقرار عزل القضاة المذكورين. ووجهت الجبهة اتهامات للرئيس قيس سعيد بعدم الفصل بين السلطات الثلاث وانتهاك استقلالية القضاء الذي لا يعتبره سلطة أصلا. كما صرحت وجوه بارزة بالجبهة على أن هذا القرار يهدف إلى تحويل القضاء إلى أداة للاضطهاد ووسيلة لتصفية الحسابات مع المعارضين لكامل مسار 25 جويلية، وأن هذا الأمر الرئاسي سوف لن يؤدي إلا لمفاقمة الأزمة السياسية الراهنة وارتفاع حدة الصراعات بين الدولة والأحزاب والنقابات. في المقابل، تُواجه هذه الاتهامات باستناد الرئيس التونسي التدابير الاستثنائية التي تمنحه السلطة لعزل أي قاضٍ يضر بسمعة القضاء، والذي ينفي حق الطعن في الأمر الرئاسي حتى حين صدور أحكام نهائية في القضايا والتهم المتعلقة بكل من القضاة المعزولين.

ما انفكّ قيس سعيّد يؤكد خلال افتتاح مجلس الوزراء الفارط على "تورّط قضاة في فساد مالي وتزوير أوراق رسمية، والتستّر على مورّطين في الإرهاب وحماية مسؤولين سياسيين وحزبيين من المحاسبة ومنع إجراء تحقيقات أمنية في قضايا إرهابية، بالإضافة إلى قضايا أخلاقية وتأديبية". وإن ذلك ليجعل من أمر عزلهم ومحاسبتهم تعزيزا لشعبيته التي بدأت في الفترة الأخيرة بالتراجع الذي قد يختلف على تقييم حدته المتابعون، وهو ما يعني إضرارا محتملا بناتج عملية الحوار والاستفتاء على الدستور؛ إن القرار الأخير القاضي بتنحية هؤلاء القضاة بسبب تورطهم في قضايا الفساد المالي والسياسي والإداري، وتورطهم في حماية مصالح حركة النهضة الإسلامية والتستر على تورط بعض قياداتها في قضايا الإرهاب، سوف يلقى قبولاً لدى قطاعات كبيرة من الشعب التونسي الذي يطالب بإقصاء حركة النهضة من الحياة السياسية بسبب ما اقترفته من أخطاء خلال سنوات توليها السلطة، وما ترتب على ذلك من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية.