نتيجة للتطور المأهول لتقنية الإتصال الحديثة عبر العالم, والتي جعلت العالم قرية كونية واحدة متواصلة 24 ساعة، حصل تغير ملحوظ في واقع المجتمعات ومسيرتها عبر تواصلها، وظهور قيم مشتركة ومتشابهة، وهذا واضح في البيئة العربية والتطورات التي تشهدها، فصار الفرد الانسان، والوحدة الاجتماعية الاسرة، ومن ورائها القبيلة، حالة متواصلة مع العالم، تتبادل معه الاراء والافكار والتطورات، رغما عن اي قيد، ذاتي أو مكتسب سياسياً او إجتماعياً، فما هي القصة؟ و أين يمتد هذا التأثير؟ وما هي مظاهر ذلك؟
سنحاول أن نعرض جملة من هذه الاسئلة، تاركاً للباحثين ومجال البحث التفصيل العميق عبر الأبحاث المتخصصة والأكثر عمقا، وصدقية، وثبات.
تعد القبيلة وحدة إجتماعية قوية الترابط (عصبية) - خاصة في المجتمع العربي - فهي ترابط شخصي وأسري وإجتماعي، يعد أقوى الحلقات تاربطاً تأثيرا في مسيرة المجتمع العربي منذ القدم، حيث لا يوجد تأصيل قديم لمعنى الدولة (Stat ) في المنطقة بمعناه المؤسساتي، رغم إن الجغرافية العربية شهدت تاريخياً دول عتيدة قبل الإسلام وبعده، إلا إن القبيلة بقت حلقة قوية، ومتينة، ومؤثرة، وفاعلة حتى يومنا هذا في استقرار الدول، والنظام، وايضاً عاملاً مهماً في سقوطه وتقويضه.
إن ما يثير هنا هو تعرض القبيلة للتواصل مع الآخر بطريقة غير مسبوقة؟ عبر أبنائها ذكوراً وإناثاً، والذي تطور حديثاً بالمقارنة بما كان عليه التواصل في عصور سابقة، حيث يلاحظ عبر الشبكة العنكبوتية - وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي - ظهور إطارين: الأول: إطار الفرد المستقل بذاته في التواصل مع الآخر، الثاني: إطار الفرد الإجتماعي عبر إرتباطه بمجموعات أخرى، عبر مجموعات متنوعة ومتخصصة.
بما يعني ظهور حالة قبلية ( قديمة) بالمعنى التلقليدي، ( جديدة ) بالمعنى الحديث لمجتمع جديد عبر الشبكة العنكبوتية، وهو ليس موضوعنا هنا بقدر ما يهمنا طرح سؤال تأثير الانترنت - كوسيلة تواصل مفتوحة مأهولة -على تلك الوحدة الإجتماعية ( القبيلة التقليدية) بمعناها وسماتها وتقاليدها، في عصر القرية الكونية الواحدة.
إن الإحصاءات الدورية تتحدث عن قفزة مأهولة في إستخدام تقنية الإتصال الانترنت عبر المنطقة العربية، وإزدادت بقوة مع مواقع التواصل الاجتماعي وهي في تصاعد أيضاً مأهول وخاصة لدى الشباب الذي يشكل تقريبا أكثر من 65% من السكان، حيث تؤكد الدراسات مثلاً: إن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية يصل إلى 45 مليون مستخدم حسب( Digital Arab Media)
وتفيد ( سلسلة تقارير الإعلام ألإجتماعي العربي)٬ الذي يعده برنامج الحوكمة والإبتكار في كلية دبي للإدارة الحكومية٬ أن عدد مستخدمي (فيسبوك) في المنطقة العربية إرتفع بواقع ثلاثة أضعاف منذ يونيو 2010٬ مشيرً إلى أن منصات الإعلام الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب) تواصل دورها كوسائل تواصل رئيسية لأكثر من 12 بالمائة من السكان العرب، الذين يستخدمونها أساساً للتواصل ونشر المعلومات - هذا يشمل الإناث كفاعل متواصل عبر الشبكة العنكبوتية - عضو او مستخدم له كل الحقوق بل وأحياناً أكثر فعالية من الذكور), عكس ما كان عليه كعنصر إجتماعي في إطار القبيلة التي كانت وفق عناصرها وسماتها القديمة المتوارثة تجعل الفعل الظاهر في المجتمع مرتبط بالذكور، وبالتراتبية الإجتماعية أكثر، وبسطوة القوة، او المال، او الجاه او السلطان ...الخ.
لقد كان كاستل ( Castells) قد تحدث في مجلداته الثلاثة عن عصر المعلوماتية، وأيضا عن الهوية وتحدياتها مع تقنية الإتصال الحديثة عبر إنتقال الإنسان من عصر الصناعة الى عصر المعلومات، ولاحظ ما يسميه أزمة التخطيط ونوعية الحياة ( Crisis planning, and the quality of life) حيث يقول إن التغيير الإجتماعي في مجتمع الشبكات أصبح أحد السمات الجديدة وهو ما يعكس هيمنة ما يسميه الربط الشبكي عبر تبادل المعلومات. أما برنار مييج (Bernard Miege) أحد اقطاب المدرسة الإعلامية الفرانكوفونية(GRESEC) , يتحدث عن ما يسميه ( Mondes vecus)) - (World life ) في معرض دراسته ونقده لنظرية بورديو ( الفضاء الاجتماعي) ( L'espace social global ) والتي ربما أيضا تعني بتفسيرنا العربي إجتماعياً الفضاء الإجتماعي الجديد داخل القبيلة كوحدة اساسية داخل المجتمع، هذا الفضاء الذي أصبح اليوم يشكل عامل تساوٍ بين الجنسين في التعامل والتعرض والإبحار وبالتالي الفعل.
(Les technique de communication, donnent la possibilite d'activer les changments sociaux)
إن موضوع الإنترنت والقبيلة عميق في المنطقة العربية اليوم ويطرح صورة جديدة لهذا (المكون الاجتماعي) في عصر الفضاء الاجتماعي الجديد، ويطرح سؤال التطور الاجتماعي تاريخياً منذ ابن خلدون ونظريته حول (العصبية وإنحلالها) مروراً بهيجل الذي يرى إن الفكر هو سبب التغيير، وماركس الذي يرى إن المادة هي التي تغير, وتوينبي الذي يرى إن التغيير يحصل بالنشؤ والإرتقاء، وما بين فتراتهم من نظريات عديدة حاولت أن تعالج موضوع التغير الإجتماعي تارخياً وتقدم تفسيرات نظرية له، منها من رأى إن التغيير يحصل بالقوة والسطوة، وأخرى رأت الدين والقدر هو من يغير الأوضاع، رغم إن الله تعالى يقول في محكم كتابه (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11 .
إن سؤال الانترنت وتأثيره اليوم ربما يتم عبر التأثير على النفس البشرية بالتواصل مع الآخر، وهو يتم من خلال وجود أفراد بشكل متساوي داخل هذا القضاء المأهول، هؤلاء الأفراد هم الذكور والاناث، بالاظافة إلى صورة القبيلة في عصر لا تعمل فيه العصبية بعناصرها القديمة بل تعرضت للتداخل والتعرض لعناصر جديدة تنزع نحو المدنية والتواصل مع الاخر عبر نظام إجتماعي إفتراضي جديد سماته متعددة متوالدة يومياً بشكل مأهول عبر توسع حيث (الإسم الوهمي والافتراضي) وحيث التحدث بحرية وبدون قيود، حيث التعرض للآخر من أفكار وصور وتحليلات وروابط، هي في الأصل أحد أهم مكونات الشخصية الفردية وبالتالي الإجتماعية، خاصة مع إرتفاع ملحوظ في ساعات إستخدام الانترنت عبر العمل والدراسة وقضاء الأوقات، والتي تضع الفرد من القبيلة في جو مجتمع جديد أكثر حرية وتنقل وتفاعل ومعلوماتية وأستفادة.
فهل يمكن لنا ان نتحدث عن تطور أجتماعي بفعل تقنية الإتصال الحديثة للواقع القبلي في المنطقة العربية، رغم إن هذا الواقع يوصف بأنه غير مادي بقدر ما هو معنوي في العقلية العصبية، حيث كان قد حدد إبن خلدون في مقدمته الشهيرة تفصيلاً عن فعل العصبية في المجتمع، وقيام الدولة وتأثير العصبية القبلية فيها خاصة في معرض حديثه عن العمران في مقدمته الشهيرة، وهل نعرف تغير إجتماعي في سلوك الفرد وبالتالي المجتمع عبر وحدته الأساسية الاسرة والقبيلة، وبالتالي المجتمع في مسائل ومظاهر بقت عبر حقب طويلة جامدة وفاعلة في الحياة اليومية، أم إن القبيلة ومظهريتها وسماتها القديمة الفعلية ستصمد وتتأقلم مع العصر العولمي الذي يبدو إنه يجتاح تلك الزوايا المظلمة في حياة المجتمعات وسلوكيات الأفراد وتفكيرهم عبر بث قيم جديدة، حيث كان كاستل ( Castells) في مجلده الثاني قد تحدث عما يسميه شبكات المقاومة الاجتماعية
(Grassrooted networks of communal resistance )
إن الحرية، والديمقراطية، والتعلم والتعرف على الاخر، والتواصل معه صارت عبر تقنية الإتصال الحديثة الإنترنت، مسائل شخصية للذكر والأنثى, وبالتساوي، وصارت قيم العيب والعار بتفسيراته القبلية القديمة، مرفوضة ويمكن تجاوزها والقفز عليها من جيل الأنترنت اليوم، وبالتالي تنشاء قيم جديدة بل ومتضادة مع القديمة، حيث صار العيب والعار والنقيصة هي أن تبقى خارج إطار التواصل مع الاخر، بل صار الإنترنت – اليوم - أحد أهم عناصر البيت بل ونحرص على وجودها، وهو أحد ميزات الموجودة (بالهاتف النقال) الذي صار عند الجدات قبل الحفيدات، وصار أحد وسائل التعليم الحديثة التي تعني الحياة بمعناها الكامل.
إن ظاهرة الإنترنت والقبيلة مطروح بقوة في المجتمع العربي اليوم، خاصة وإن الدواخل العربية تدخل عصر التواصل تدريجياً عبر إتساع نطاق إستخدام تقنية الإتصال الحديثة بالثورة الرقمية التي تتجه نحو السهولة والبساطة في متناول اليد في أي مكان، فهل هذا التطور الجديد يغير معنى المشيخة، ومعنى التراتبية الاجتماعية، ومعنى الوجاهة، والمعرفة وإحتكارها, وبالتالي القيم العصبية، والمفاخرة، التي لم تغادر السلوك القبلي عربياً منذ عصور سحيقة، ونرى بعض مظاهرها اليوم عبر الكثير من الصفحات، والسلوكيات، أم إن تمظهراً إجتماعياً قبليا يمتص الموجة ويركبها ويستمر بنفس خصائصه القديمة ولو بصور عصرية، ذلكم سيبقى سؤالاً معلقاً يلهم الباحثين في الإطار الإنساني الإجتماعية وعلاقته بمحيطه وعصره وأساليبه, ليثري به طلاب العلم مسيرة الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم .
*(باحث ليبي مقيم ببريطانيا)