سعيد هادف

تلهمنا المجتمعات الحكيمة وتعلّمناأن الإنسان الذي لم يأخذ حظا من الفلسفة ومن الحكمة والمنطق يعيش حياته سجين الأحكام المألوفة التي أنتجها الحس المشترك من خلال تمثلاته القاصرة، ومن العادات والعقائد السائدة في مجتمعه بعيدا عن أي مراجعة نقدية أو مساءلة عقلية.

ولأن الفلسفة، رغم قوة مناعتها، اغتصبها صنف من محترفي زخرف القول، وسكنوها بعد أن حولوها إلى قوقعة، يدعو فلاسفة الفعل وفن العيش والراغماتيا، على غرار  ميشال أونفري إلى استعادة دور الفلسفة وإعادتها إلى الشارع وإلى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة، وأعطى مثلا بكتابات افلاطون التي تعج بالناس بمختلف طبقاتهم ووظائفهم.

وأن تكون فيلسوفا، يقول أونفري، يعني أن تتفلسف طوال الوقت. ويرى أن فلسفة الجامعات التي نعرفها هي تطوير لتقليد علم المسيحية لذا عندما تتحدث عن فيلسوف فرنسي- النظرية الفرنسية كما يقول الأمريكيون، وأعني فلاسفة مثل دولوز، غاتاري، ديريدا وليوتار الخ – فذلك له علاقة بأصحاب التنويم المغناطيسي تماما. وإذ يضع أونفري بعض الفلاسفة في سلة واحدة مع آباء الكنيسة كونهم مثلهم خنقوا الفلسفة وجعلوا منها تمرينا وبحثا مجنونا في تفاصيل عجيبة، يسعى في فلسفته إلى القبض على التفكير الفلسفي الذي قام خارج هذا التقليد وعاداه.

من نافل القول أن نشير أن الفلسفة هي احترام الحكمة بشكل من الأشكال، من منطلق أن الفيلسوف يحب الحكمة ولا يدعي أنه يمتلكها. والفلسفة والحالة هذه ذات صلة بالعقل النقدي وبالمعرفة المأمونة بعد فحصها. غير أن المشكل أنها عرضة للقرصنة ولاسيما من قبل أذكياء وموهوبين في فن المجادلة من مثقفين ذوي نزعة مسيحية وإسلامية وحتى اللا دينيين المؤدلجين.

 من حق أي مثقف أن يتسلح بالفلسفة دفاعا عن رؤيته حتى وإن تناقض مع العقل، لكن ليس من حقه أن يدعي الفلسفة أو يعلقها وساما على صدره، ويبقى "مثقفا" منحازا لجهة ما بالمعنى الغرامشي، أي مثقفا عضويا. 

والمثقف العضوي هو من يرتبط بقضايا الطبقة التي ينتمي إليها، ويساهم في تكوين وعيها وصياغة رؤيتها للعالم وتحديد مهامها، حيث يظهر ذلك المثقف في جميع أروقة الدولة التنظيمية والثقافية والأيديولوجية. وبالتالي، فلكل طبقة مثقفوها، كما أن هناك مثقف الموالاة ومثقف المعارضة، أو النخبة الموالية للحكم والنخبة الموالية للمعارضة.

أما "المثقف الفيلسوف" ومهما رافع دفاعا عن مصلحة طبقته يظل منحازا إلى العقل ومبادئه، فتجده في جبهته الحرة يخوض معركتين: معركة المصلحة ومعركة الحقيقة، عكس "المثقف السفسطائي" الذي يخوض معركة المصلحة فقط.

وقد كنت في العدد السابق، حول "الاستبداد المستنير"، أشرت إلى نقاط الاختلاف بينه وبين "الطغيان والدكتاتوريا". وإذا كان المستبدون والطغاة يظهرون وقت الفراغ وانتشار الفوضى، فإن المستبد يفتك الحكم مدفوعا بروح الأبوة للدفاع عن الشعب بينما هدف الطاغية هو الحصول على الحكم لإشباع رغبته المتعطشة إلى السلطة. وقد ينجح المستبد في خدمة مصالح الشعب إذا ما وجد في صفه مثقفين يتمتعون بالمهارة والشجاعة، وفي هذه الحالة يسمى "المستبد المستنير"، أما إذا التف حوله مثقفون سطحيون وجبناء وسفلة خوفا منه فقط، فالمستبد والحالة هذه يتحول إلى طاغية بعد أن يفشل في تدبير شؤون الدولة.

وفي الختام، يمكن القولأن الطغيان تنتجه ثقافة جاهلة ومتحجرة كسولة وجبانة جفت فيها روح المغامرة وخصوبة الخيال. وهذه الثقافة العقيمة في الغالب تتأسس علىعبادة التراث، ورفض المستجدات،وعدم تقبل النقد والخوفالمرضي من الاختلاف والتنوع،هاجس المؤامرة، الاستهلاك الاستعراضي والتفاخر بالثراء، والجهل بفن العيش، النزوع نحو العنف ورفض الحوار والنقاش، وانتشار الظلم والفساد...

هل لهذه الظاهرة نخبتها؟ هل لهامثقفهاالعضوي؟ لا أظن ذلك، بحكم أن الوضع يكون تحت طقس من الخوف، وبسبب جشع الطغاة الفرعيين في كل قطاع أو جهة، تنعدم الثقة بينهم، وبالتالي تضم كل عصابة إليها "ما يشبه المثقفين" لتنشيط الشأن العمومي بهدف استباحته بتزكية من الطاغية الرئيسي.