دخول القوات المسلحة التابعة للبرلمان ، إلى مناطق ومدن الجنوب وبغض النظر عن معانيه الوطنية المباشرة ..يبدو مزدحما بالدلالات والمؤشرات..أهمها على الإطلاق تغير معطيات التوازن الإقليمي بين دول الطوق كإنعكاس لمخرجات الصراع داخل المؤسسة الحاكمة في الجزائر التي كانت حتى وقت قريب تعارض إقتراب القوات المتهمة من قبلها بالإرتباط بالحكومة المصرية من الحدود الدولية جهة الغرب الليبي ..وإستطرادا لتتبع طيف الدلالات لايمكن تجاهل حقيقة أن إعادة رسم خارطة الإقتتال في ليبيا مشروط بما تسمح به قوانين اللعبة القذرة بين روما وباريس كقوتين رئيستين على مسرح الصراع الدولي الذي تمثله الأرض الليبية بعد إسقاط النظام  السابق من قبل حلف شمال الأطلسي وهو صراع يتجاوز المطامع العلنية في حقول النفط والغاز والثروات الطبيعية الأخرى إلى تحديد جغرافية ومنصات النفوذ على القارة الافريقية التي يطل عليها الجنوب الليبي ..وكل هذا لايمكن قراءته بمعزل عن مظاهر التراجع والإنحسار الذي يشهده مشروع تمكين الإسلام السياسي  الممول من قبل الدوحة وتشرف عليه تركيا في المنطقة العربية وشمال أفريقيا على وجه الخصوص..
ضعف القوى السياسية المحلية وإرتهان المجاميع المسلحة المبعثرة في كامل الجغرافية الوطنية هو ما يجعل منها دمى متحركة خيوطها في قبضة اللاعب الاجنبي ..وهو كذلك مايجعل من أي تحرك على الأرض مجرد رجع صدى ورد فعل لما يحدث بين الأطراف الإقليمية والدولية من صدامات وتسويات ..وعلى هذا النحو لن يستطيع أكثرنا تفاؤلا ، توقع تغيير قواعد الإشتباك الليبي - الليبي في وقت قريب ، ذلك أن الأزمة ومنذ الأيام الأولى لما عرف بأحداث فبراير لم تعد أزمة محلية بل شأنا شائعا متاحا للجميع ..
المشكلة الأخرى أنه لا أحد - بما في ذلك القوى الوطنية صاحبة المشروع الواضح - يعي أن قطيع الضباع المتصارع حول الفريسة لايمكن أن يسمح لأي من الفرقاء المحليين بتجاوز الخطوط الحمراء التي تعطل حتى الآن - وبنجاح منقطع النظير - عودة الحياة والعافية لجسد الدولة الوطنية بكل مؤسساتها الأمنية والعسكرية والسياسية وحتى الإجتماعية ..وإذا كان الصراع بالنسبة للفصائل الليبية منظورا إليه فقط من زاوية السيطرة على المال والنفط ، فإنه عربيا وأوروبيا أكبر من ذلك وأكثر تعقيدا ، ولايتعلق بتصفية حسابات قديمة مع النظام الوطني السابق في حضوره ودوره الطاغي إقليميا ودوليا ، بل بتأمين وضمان عدم عودة هذا الدور على المدى المنظور وغير المنظور..
إن تقدم هذا الطرف أو ذاك ميدانيا قد يتيح للراعي الأجنبي إكتساب نقاط تفوق على غريمه - الراعي الأجنبي الآخر - تمكنه من دعم مركزه التفاوضي في إقتسام الغنيمة وتعزيز مستوى ونطاق نفوذه في هذه المرحلة والمرحلة القادمة  ..لكنه لايبدل في المعادلة الحاكمة في المشهد العام مقدار أنملة ..فكل الدعم الذي يأتي من الخارج سواء منه السياسي أوحتى العسكري في شكل ذخائر وأسلحة خفيفة غير حاسمة  ، محسوب بميزان حساس بحيث أنه لايمنح أي فصيل ليبي من الفصائل المتناحرة فرصة مهما كانت ضئيلة لكسر توازن العنف والعنف المضاد القائم منذ سنوات بين المدن والقبائل والأقاليم ..
في الفكر السياسي والممارسة السياسية وفق منهج المدرسة الواقعية ، العمل العسكري هو أداة من أدوات الدبلوماسية تلجأ إليه القوى المتصارعة لتحريك الجمود والتقدم خطوة إلى الأمام في طريق حلحلة الأزمات ..وهذه قاعدة - إذا جاز التعبير - تصح على مستوى الصراعات الإقليمية والدولية كما تصح على مستوى الصراع المحلي الذي يغلب فيه تنازع الشرعية وتقارب القوة المسلحة في العديد والعدة ..لذلك وبغض النظر عن حالة التعبئة والتجييش العاطفي التي ينهمك فيها قطاع كبير من الإعلامييين ووراءهم كثيرون من أبناء شعبنا الباحث عن الخلاص ولو بواسطة  قشة ، وبغض النظر كذلك عن البعد الأمني المحدود - ولكن الضروري والملحوظ - للعملية العسكرية الجارية في الجنوب .. على العقل السياسي الذي أتصور أنه يقف خلف هذا الحراك ، أن يتعامل مع الحدث في حدوده وأبعاده الحقيقية التي تسمح بها القراءة الواعية المدركة لكل عناصر  الأزمة ومدخلاتها ، أي على قاعدة أنه مهما كان حجم المتحقق على الارض من إنتصار ، فيجب أن يكون جزءا من عمل سياسي شامل يراعي خصوصية بل وهشاشة الحالة الليبية في ظل غياب الشرعية الدستورية والمرجعية الاجتماعية المتفق عليها ، وفي ظل تضارب المصالح والإرادات الأجنبية .. على أن الوعي بهذه الحقائق ومراعاتها لا يعني بالضرورة الإرتهان لها والخضوع لمتطلباتها ، بل توظيفها في الإتجاه الذي لايعطل المسار الوطني أو في أقل تقدير تحييدها مرحليا..
وفي مطلق الأحوال وبعيدا عن حسابات "البيدر والحقل " لايمكن لأحد كائنا من كان التشكيك في إخلاص وإنتماء الرجال والشباب الذين يخوضون حرب الجنوب في هذه الأيام بدافع من الواجب والغيرة لتراب الوطن ، وهؤلاء لم تشوههم السياسة والصراع على السلطة وإرتباطات المصالح الداخلية والخارجية ..كما أنهم غير معنيين بالمغارم والمغانم ..فلهم التحية ولهم المجد..

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و  لا تعبر عن سياسة البوابة