مصطفى حفيظ

كان ما يسمى بالحراك الشعبي في الجزائر فرصة للنخب السياسية والثقافية كي تأطر وتوجّه وربما تقود المسيرات الاحتجاجية التي شهدتها مختلف محافظات البلاد بهدف رفض ولاية خامسة للرئيس الراحل بوتفليقة، لكن على العكس، كانت النتيجة مخيّبة للآمال، وهو أنّ الشعبوية هي التي كانت مسيطرة وأن الخطاب الشعبوي كان الأكثر تأثيرا من محاولات النخب لاحتواء هذه "الثورة الشعبية" إن صحّ التعبير، إذن، هل يمكن القول إن النخب فشلت في مهمتها كنخب، سواء كنخب سياسية، إعلامية، ثقافية...الخ؟ أو بالأحرى، لماذا كان عصّيا على هذه النخب أن تصنع خطابا يحتوي هذا الحراك؟ في حين نجحت الشعبوية في التحكم فيه وافشاله بشكل ما؟

قبل انطلاق مسيرات "الحراك الشعبي" في الجزائر، كانت الطبقة السياسية منقسمة بين مؤيد ومعارض للسلطة، كانت السلطة طبعا بيد أقلية سميت بالعصابة، ما فعله بوتفليقة على مدار عشرين عاما من الحكم، كان تحييد المعارضة أو تقزيمها واختصارها في مجموعة من الأحزاب التي ليس لها تمثيل في البرلمان أو لا تحوز سوى على عدد قليل من المقاعد في البرلمان، كانت الصحافة الجزائرية تصفها بالأحزاب المجهرية، ربما استطاع بوتفليقة بمكره السياسي وقتها أن يصنع نخبة سياسية موالية له، وهذه حقيقة، لأنّ الواقع أظهر كم كانت تلك النخبة التي تضم سياسيين ومثقفين وأكاديميين في الجامعة كلهم كانوا يدورون في فلك السلطة، لأن وقتها سادت فعلا الرشوة السياسية والمناصب العليا والوظائف السامية لهذا السياسي أو الاطار المثقف أو ذاك، لأنهم كانوا ضمن دائرة الولاء، وكانت هذه النخبة، إنّ صحّت التسمية، تعمل ما في وسعها لتسويق خطاب السلطة عبر الاعلام المرئي، المسموح، والمكتوب، سواء بتصريحات أو مقالات رأي، أو تحليلات على بلاتوهات القنوات التلفزيونية العمومية والخاصة، هذه النخبة، يصحّ تسميتها "النخبة السياسية الحاكمة" بما أنها كانت تستفيد من قربها من منظومة الحكم. 

على النقيض من ذلك، كان المعارضون للسلطة يحاولون أن يصنعوا لأنفسهم حيّزا يتحركون فيه، تكتلت مجموعة من قادة الأحزاب والشخصيات السياسية وبعض العسكريين المتقاعدين والإعلاميين والسفراء والوزراء السابقين، في تكتلات سياسية حاولت من خلالها تقديم مبادرات ومشاريع سياسية للإصلاح السلطة، وتجرأت أن طالبت من السلطة نفسها التسليم السلس للحكم، أي أن هذه المعارضة، التي ربما، يمكن وصف قادتها بالنخبة السياسية المعارضة، كان همّها افتكاك فرصة ممارسة الحكم هي الأخرى، ولقد كان مرض الرئيس بوتفليقة لمدة خمس سنوات أخرى، عندما مارس الحكم وهو مقعد على كرسي متحرك، فرصة لهذه النخبة المعارضة لكي ترفع من سقف مطالبها إلى حد دعوتها المجلس الدستوري بتطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري وإعلان حالة شغور منصب رئيس الجمهورية وتأجيل الانتخابات، وكان ذلك بعد اعلان الرئيس، أو محيطه برغبته في الترشح لعهدة خامسة، مع العلم أنه كان مريضا ولا يقدر على الكلام، إذن، هذه "النخبة المعارضة" كانت في كل تلك المراحل من نضالها السياسي، سجينة الصالونات السياسية والقاعات المغلقة، كانت تنشط إعلاميا، لكن هل كانت متجذرة شعبيا؟ هل كانت لديها قواعد نضالية في الولايات؟ هل كانت مؤثرة سياسيا في الأوساط الشعبية؟ 

رأينا كيف أن النخبة السياسية المعارضة فشلت في كل محاولاتها زعزعة منظومة الحكم البوتفليقي وزمرته التي كانت مشكلة من رجال المال والأعمال، قادة أحزاب موالية للرئيس، شقيقه الذي كان يقود هذه "العصابة" وكذا وسائل اعلام مكتوبة ومسموعة ومرئية، إذن، هل يصحّ هنا تسمية هؤلاء بالنخبة الحاكمة؟ لقد كانت بالفعل صانعة القرار والمسيطرة على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، والكل كان يدور حول هذه النخبة، فجأة تُعلن هذه العصابة عن نية الرئيس في الترشح لعهدة خامسة، وهو الأمر الذي لم يهضمه الشعب برمته، ربما ساهمت حالة الانسداد التي كان يعيشها اقتصاديا واجتماعيا ومعيشيا في ثورانه وغضبه، وكلها كانت ارهاصات "الحراك الشعبي" القادم والذي سيطيح لاحقا بمنظومة الحكم هذه، لكن من خطط لانفجار الوضع؟ وكيف حدث فجأة أن خرجت تلك الجماهير إلى الساحات والشوارع لمعارضة ترشح الرئيس؟ ثم اتسعت إلى كل التراب الجزائري، وحتى في الخارج؟

لحد الساعة، لا يُعرف ما إذا كان "الحراك الشعبي" الذي شهدته الجزائر يوم 22 شباط/فبراير 2019 قد حدث مصادفة أم أنه "أمرٌ دبّر بليل" على حدّ قول المثل؟ إن كنا نقول بأن الأمر قد حدث بفعل تراكمات المرحلة من سياسة تقشّف وغلاء المعيشة وتقهقر الاقتصاد بفعل الفساد، وفساد الحكم، كل ذلك قد يكون سببا في اندلاع موجة الغضب الشعبي الذي ازدادت حدّته مع الأيام وسميّ بالحراك الشعبي، كان المطلب الأساسي رفض العهدة الخامسة، ثم تمادت الجماهير الغاضبة في مطالبها إلى المطالبة برحيل النظام بكل رموزه، ثم تعالت الأصوات من هنا وهناك، ورفعت الشعارات، ثم توالت المسيرات في كل يوم جمعة، كانت ترفع شعارات تطالب الجيش بالتدخل وحماية الحراك، وشعارات ذات بعد سياسي، وأخرى ذات بعد ثقافي وهوياتي، وأخرى ذات بعد اجتماعي ومهني، المهم أن الشعارات كانت تولد من لا شيء، كان يحدث كل هذا بشكل تلقائي، أو هكذا بدا الأمر، برغم أن الشعارات لم تكن بريئة أحيانا، وطغت عليها الشعبوية، لكن من كان يحرّك الجماهير يا ترى؟ هل كانت النخبة السياسية المتمثلة في قادة الأحزاب أو شخصيات سياسية وطنية مؤثرة؟ هل كنت شخصيات من النخبة الثقافية المفكرة؟ هل كانت أطراف معارضة تحرّك الجموع من الخارج؟ 

على طول مسيرات الحراك الشعبي منذ انطلاقها في فبراير 2019 حتى توقّفها في ماي 2021، كانت الطبقة السياسية المعارضة تنزل إلى الشارع رفقة الجماهير، طبعا، حاول القادة السياسيون من المعارضة ركوب الموجة، رفعوا هم أيضا الشعارات، ومشى خلفهم وبرفقتهم رفقائهم في المعارضة وأنصارهم، ورأينا كيف حاول هؤلاء تقديم أنفسهم كقادة للحراك، لكن لم تنفع محاولاتهم، رفضتهم الجموع، كان الشعب قد فقد ثقته في النخب السياسية وحتى المثقفة، فبرغم محاولات مصطفى بوشاشي، الذي يمكن ادراجه ضمن هذه النخبة السياسية والمثقفة، كونه محامي، وسياسي معارض، إلا أن الشعبوية كانت الغالبة في نهاية المطاف، لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه آراء المحتجّين، بحيث أسسوا شعاراتهم استنادا لبعض المؤثّرين في الحراك عبر السوشل ميديا، لكن من هم هؤلاء؟ ولماذا ليست النخبة المثقّفة؟ أين كانت هذه الفئة من الجزائريين؟ لو فقط كان لها تأثيرا قويّا وكلمة مسموعة لكانت في الطليعة ومشت خلفها الحشود، لكن هل تم تغييبها عن المشهد السياسي طوال سنوات حكم بوتفليقة؟ أم هي التي غيّبت نفسها عندما تقوقعت وانغلقت على نفسها، واختارت ألا تعلب دورا في صناعة خطاب توعوي وتثقيفي وتنويري، على اعتبار أن النخب مهما كان شكلها، تقوم بدور فعّال في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية؟ 

كانت الحشود المشاركة في الحراك ترفض أي مبادرة لركوب الحراك من جانب النخب، فعندما كانت السلطة تقدّم مخرجاتها لبناء حوار بينها وبين الحراكيين، كان هؤلاء يرفضون المبادرة تلو الأخرى، وكان أغلب المحتجّين يرفضون أن يمثّلهم أيّا كان، وكل من حاول تقديم نفسه، أو مجموعته كممثل شرعي للحراك، كان يتم رفضه مباشرة، تم تقديم الكثير من الأسماء كممثلين عن الحراك، كلها شخصيات سياسية، أو مثقفة ذات وزن ولا تفوح منها رائحة الفساد أو القرب من السلطة، مع ذلك، لم ينجح الأمر، هل فعلا فقدت الجماهير الثقة في النخبة؟ أم أن الشعبوية كانت طاغية لدرجة أن تسيطر على تفكير الأغلبية المشاركة في الحراك، دون نسيان القول بأن المثقفين من اعلاميين وكتّاب وشعراء، وفنانين ومحامين وأطباء وكل من يصحّ ضمّهم ولو بالمهنة إلى النخب المثقفة، كانوا يشاركون في مسيرات الحراك، لكن كيف؟ كانوا كغيرهم من الناس، يجوبون الشوارع على طول المسيرة دون أي تأثير ولا حتى القدرة على لفت الانتباه، ربما كان أحد أفراد هذه النخبة المثقفة، قد لفت الانتباه في الحراك والتف الناس حوله، وهو الصحفي السابق والناشط السياسي والحقوقي فوضيل بومالة، لكن هل نجح في قيادة الحراك مثلا؟ 

قلنا من قبل أن النخبة قد تكون فشلت في احتواء الحراك والتأثير فيه بسبب سيطرة الشعبوية عليه، لكن لماذا كانت الشعبوية هي الغالب في آخر الأمر؟ من كان وراءها؟ لماذا تم تغييب وابعاد أي محاولة لقيادة الحراك؟

ماهي الشعبوية ولماذا نجحت في افشال محاولات النخبة السياسية والمثقفة في القيام بأي دور قيادي في مسيرات الحراك؟ 

ارتسمت ملامح الشعبوية المسيطرة على الحراك عندما بدأت تتعالى الأصوات بأحقية الشعب في تقرير مستقبله، ثم رفض أي قيادة مفترضة للحراك بحجّة أن السيادة للشعب والشعب يريد تغيير النظام، وقتها فقط اتضحت الصورة بأن الحراك الشعبي في الجزائر الذي كان يبدو كأنه ارهاصات ثورة شعبية حقيقية، ظهر بأنّه نتاج خطاب شعبوي أيديولوجي غوغائي لا يؤدي إلى أي نتيجة، والدليل أنّه وقع في براثن الأيديولوجيا، سواء اسلاموية أصولية كمثال على ذلك محاولة "حركة رشاد" التي يقودها المعارض الجزائري العربي زيتوت، المقرّب من حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ – الفيس" بحكم انضمام قادة من هذا الحزب المحظور لهذه الحركة التي تتخذ من لندن مقرا لها، أو انفصالية كحركة الماك "حركة استقلال القبائل" كما تسمّي نفسها، والتي أيضا يقودها معارض جزائري هو فرحات مهني، وتتخذ من العاصمة باريس مقرا لها، والحركتين حاولتا السيطرة على الحراك، أو بالأحرى، نجحتا بخطاباتهما الشعبوية في افشال الحراك الحقيقي الذي كان يبدو أنه خطوة نحو تجربة ديموقراطية حقيقة في الجزائر.

لكن لماذا نجحت الشعبوية في السيطرة أولا على الحراك، ثم افشاله واخماد جموح وآمال الجماهير التي كانت تحلم بالتغيير الحقيقي؟

كل من حركة رشاد وحركة الماك، وهما الآن حركتان ارهابيتان بالنسبة للسلطة في الجزائر، ساهمتا في تسويق خطاب شعبوي مشحون بالعاطفة والحماسة، وخالٍ من الأفكار أو الرؤى أو أي مشروع سياسي ومجتمعي أو بالأحرى مشروع دولة، فقط اثارة الحماس وإلهاب المشاعر، اللعب على وتر الدين والهوية، اللغة والجهوية، رفع أنصار حركة رشاد والاسلاميون من أنصار "الفيس" سابقا شعارات اسلاموية من قبيل "باديسية نوفمبرية"، في مقابل شعارات حركة الماك التي كان أنصارها يرفعون العلم الأمازيغي وهو ما ترك انطباعا سيّئا لدى المشاركين في الحراك، ورويدا رويدا بدأت الجموع تتفرق، وفهم الناس بأن الحراك تم اختراقه، وأن الخطاب الشعبوي الذي صنعه وسوّقه زيتوت وفرحات مهني لم يكن سوى بداية فشل هذا الحراك، بعدما تم ابعاد النخب السياسية والمثقفة عن المشهد...