هل تقتصر النخبة على قادة الرأي العام والشخصيّات المؤثرة في تشكيل الاتّجاهات وبلورتها، أم إنها انتقلت اليوم إلى صيغة مختلفة، وفق المفهوم المعاصر، والتعاطي المستجدّ المختلف مع وسائل الاتّصال، في ظلّ الثورة التكنولوجيّة الراهنة، وفي ظلّ التسارع في التلقف والإنتاج...؟ هل يتناسب الكمّ المستعرض مع مقدار التلقي المخمَّن...؟ ألا يخلق التباعد بين المتنصّب في عداد وتعداد النخبة والمتلقي فجوة يصعب تجسيرها بين تلك النخب التي تنشد التأثير، أو تتموضع في خنادقها الدفاعيّة سعياً منها للاحتفاظ بامتيازاتها، ومحاولة التملص من استحقاقات المراحل عليها، وتلك الفئات أو الشرائح التي يفترض بها أنها مصدرها ومرجعها...؟ 

هل بقي لهذا المصطلح أي أثر إيجابيّ بعد الهوة التي باتت تبعد بين النخبة وقواعدها...؟ أم إنّنا نحمّل النخبة المغربية أكثر من طاقتها وإمكانيّاتها...؟ حين تكلف النخبة نفسها أو يتمّ تكليفها، إلى أي حدّ يمكنها الإيغال في دورها وما القوى التي تمتلكها لتكون رادعة فاعلة...؟ تكليفها مسؤوليّة أم إنه لا يخرج عن إطار التشريف المرغوب فيه لذاته وبذاته...؟ ألم تتحوّل النخبة المغربية من شخصيّات إلى وسائل ومنابر... وأبواق؟ هل يمكن أن تلبَّس شريحة ثوب النخبة دون أن تستشار، لتكون الحيرة بين شتّى الفِكَر من نصيبها لاحقاً...؟! 

النخب المغربية والمصالح:

 لا يخفى أن كلّ شريحة تفرز نخبتها التي تعبّر عن مصالحها وتوجّهاتها، قد يكون الفرز انتخابيّاً أو تراكميّاً، لكنه سيكون مبعث استبشار، لأن التنقيب عن النخبة في بحر التناقضات ينتج عن نوع من الإعسار. الفرز يتمّ بطرق طبيعيّة ودون تسلّط أو وصاية، ولكن بعيداً عن الآليّات التي سادت أو التي ستسود، وبعيداً عمّن نصّب أو تنصّب، سواء كان عن انتخاب أو انتقاء أو تكليف، فإن النخبة تحظى بالنفوذ، ويكون الجانب المعتم والمرعب في الموضوع حين ينتقل ذاك النفوذ لاحقاً إلى التنفذ الذي قد يكون غاية عند بعض المصنفين أو الدارجين في نطاق النخبة أو تحت رعايتها، ووسيلة لتحقيق غايات معلنة ومبيّتة ومكشوفة... والأكثر رعباً حين تنتقل إلى الاحتكار والتحكّم والتوجيه، إلى التبويب والتصنيف والتجييش، فلا يبقى من طريق سوى الرهان على الطاقات الكامنة والإرادة الحرّة...

نخبة ثقافية مغربية يرثى لها:

إذا كانت النخبة، كما تُوصَف أو تُعرَّف، بأنها أقوى فئة في المجتمع، فإن هذا التوصيف أو التعريف، قد لا يتعمّم في مختلف المجالات، قد يصحّ في موضع أو بالنسبة لشريحة، وقد يخطئ في موضع آخر، أو بالنسبة لشريحة أخرى، ذلك أن قوّة النفوذ التي يتمّ الحديث عنها، وتضخيمها أو تقزيمها، أيضاً نسبيّة، وتعتمد على عوامل عديدة تساهم في تكريسها أو تبديدها.

الحديث عن النخب المغربية بإطلاق حديث ضبابيّ يحتمل الكثير من الأخذ والردّ، يحتمل وجوهاً وآراء كثيرة، وقد يؤدّي إلى نوع من الاختلاف، وحتّى الخلاف، أمّا تخصيص الحديث عن نخبة بعينها، فيركّز المراد ويحدّد المنشود، والمقصود هنا النخبة الثقافيّة، النخبة التي تبدو اليوم في حال يرثى لها، حال ''لا تسرّ الصديق ولا تغيظ العدوّ''، لأنّها مشغولة بجدل بيزنطيّ لن ينتهي، جدل يشابه كثيراً حديث البيضة والدجاجة وأيّهما أسبق.

الحيرة تتضاعف إزاء شريحة من المثقفين المغاربة، تنظر إلى نفسها بمنظار مضخّم جدّاً، بحيث تتيه في التفاصيل وتتناسى الملامح الرئيسية، تغرق في بحور من الصغائر، بعيداً عمّا ينتظر من استحقاقات، وتتجاهل الكبائر. ولا غرو أن ''النخبة'' الثقافيّة المغربية تتعرّض لشتى أنواع الهجاء من ''نخبةٍ'' فيها ومنها، تعيش معها في عالم الامتياز والتزخرف، لكنها تعرّيها وتفضح سلوكيّاتها الشائنة، بحيث تجعلها عرضة للتهكّم والسخرية، وتنزع عنها تلك الأقنعة التي تبرع في وضعها وتبديلها، بحكم معرفتها واطّلاعها، لكنّ تلك المعرفة موظّفة للإيقاع ومجيّرة للتضليل.

النخبة المغربية والشللية:

يلاحظ المطلّع على الواقع الثقافيّ، ببساطة، أن النخبة الثقافيّة المغربية مفتتة إلى شلل، والشلل إلى علل، وكلّ علّة بدورها تنخر في الجسد الثقافيّ، بحيث تنتج صورة غير وفيّة للسموّ الذي يفترض بها أنها تنشده، كما يدرك المتابع أن ترميم العلل ليس بالأمر الهيّن، وسط الاستعداء المستفحل، والصراع على مزايا وامتيازات سرابيّة، بحيث لابدّ من إعادة الاعتبار للمثقف، لأن امتياز المثقف الأبرز والأهمّ هو صدقه مع نفسه، وجوهره يكمن في مرآته الداخليّة، حينذاك سيكون خير معبّر، ومرسال المراسيل الأصدق. وأتذكّر فحوى مقولة تشير إلى أن الحقد الأعمى يكون لدى الكتّاب فيما بينهم وعلى بعضهم بعضاً، بحيث يستحيل عليهم نسيان حقدهم حين تعاملهم فيما بينهم، وهو حقد بائس، يوسوس لصاحبه أن المكانة الأسمى تليق به وحده دون غيره، وهنا العقدة المعقدة.

لا شكّ أن النخبة المغربية مطالبة بالتزامات تجاه هذه الفئة أو تلك، فهل تفلح الحيرة في الإيفاء بالالتزامات..؟ هل يكون ذلك لنخبويّتها أم لفئتها التي انفرزت منها والتي يجدر بها تمثيلها لا التمثيل عليها...؟ هل تحيا النخبة الثقافيّة حيرتها المنتجة المبدعة، وتعيش مستمتعة بقلقها الوجوديّ الخلاق، أم إنها لا تعدو التهويل والمبالغة في تلبّس ما لا طاقة لها به، وما لم يكن لها به طاقة في أي يوم...؟

كاتب صحفي من المغرب.