عبد الستار العايدي

بعد ما شهد المطبّات الكثيرة في الطريق إلى خزينة صندوق النقد الدولي، قد لا يجد قيس سعيّد مرة أخرى مثل من سبقه غير سبيل نوادي المال ورجال الأعمال من الدائنين العموميين، نادي باريس ونادي لندن، وقد كان رئيس نادي باريس ومدير عام الخزينة الفرنسية أوّل المدعوّين لتونس لبحث ماهية الوضع الكارثي والمتعثّر للمالية التونسية وإيجاد خارطة طريق إقتصادية واضحة للقروض التي من الممكن أن يتم تقديمها وسبل خلاصها إلى جانب تقديم تقرير واضح ومحايد لصندوق النقد الدولي، الذي يحتكم للنفوذ المالي الأمريكي والألماني والفرنسي، الصندوق الذي فشلت السلطات التونسية في إقناع إدارته في عدد من المفاوضات حول مزيد التداين بأي خارطة إقتصادية أو إصلاحات جذرية للوضع المالي في تونس.

في خضمّ عدم رضا الدول المؤثرة في قرارات صندوق النقد الدولي على طريقة قيس سعيّد الفردانية في إدارة المشهد السياسي ومحاولة السيطرة عليه كليّا، لازالت المالية التونسية تحتاج لخمسة مليار دينار أو أكبر عدد من القروض كميزانية تكميلية لسنة 2021 وتعبئة تسعة عشر مليار دينار من القروض الجديدة، منها إثني عشر مليار دينار كقروض من الخارج لتمويل ميزانيّة سنة 2022 ، وفي ما يخصّ الديون الثنائية  فهي لا تمثّل سوى إحدى عشر بالمائة من ديننا العمومي وسبعة عشر بالمائة من ديننا الخارجي، هذه الديون هي الوحيدة مجال نظر إذا ما كان الطريق الأوحد لتونس للإستعانة بنادي باريس في حالة قرار السلطات التونسية إعادة جدولة ديون الدولة، وهو ما يطرح إقرار شروط وإصلاحات غير تلك التي طالب صندوق النقد الدولي قد لا تتوافق مع السياسة المالية التونسية إلا لفترة وجيزة. 

بديون وصلت إلى أكثر من ثلاثة فاصل سبعة مليار دولار لنادي باريس إلى حدود سنة 2021، كانت تونس مجبرة على إستقبال المدير التنفيذي لهذه الشركة المالية المانحة العملاقة لتدارس الإمكانيات المتاحة لجدولة الديون وتغيير أساليب سدادها وخفض نسبة الفائدة من أجل الوصول إلى سبيل لمزيد الاقتراض والتداين وذلك حسب توصية من صندوق النقد الدولي بعد فشل كل الحلول البديلة، وسواء كان ذلك حقيقة يفرضها الواقع الاقتصادي المتردي في تونس لتهافتها على المزيد التداين من الخارج والداخل أو تهويل وفرضيات محتملة فإن ثمن لجوء تونس إلى نادي باريس سيكون باهظا ومخاطر كبرى لإعادة جدولة الديون مما سيتيح للمانحين وضع شروط مجحفة ووضع إصلاحات قد تفضي إلى إلى خفض أجور موظفي الدولة وخوصصة المؤسسات العمومية والتقليص من النفقات في الشأن الإجتماعي ونفقات الدعم للبضائع الأساسية في ظلّ أزمة إجتماعية خانقة، البطالة وغلاء الأسعار وضعف القدرة الشرائية وغيرها من المظاهر.

وفي سياق متصل وإستنادا الى نفي وزارة المالية لجوء تونس إلى نادي باريس وبإمكانها إيجاد حلول ولو وقتية لترقيع ميزانية 2021 وتطبيق الاصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي، فإن البنك المركزي التونسي سيكون مجبرا على ضخ السيولة النقدية مما يفضي إلى زيادة نسب الضرائب أو الفائدة المديرية على البنوك العمومية أو الخاصة ومنها على المقترضين من البنوك، وسيكون البنك المركزي أمام طريقين، طباعة مزيد من الأوراق لضمان هذه السيولة ورفع نسبة التضخم أو العودة تحت إشراف الدولة وفقدان إستقلاليته الرمزية، وفي إنتظار وصول السلطة إلى إتفاق سريع مع صندوق النقد الدولي الذي وضع الإصلاحات شرطا لتمويل ميزانية 2022 لا يزال البنك المركزي قلقا من اللجوء إلى الحل القاسي والذي سيزيد من تفتّت أسس السياسة الاقتصادية والمالية الحالية.

لا يزال إيجاد حلّ لأزمة المشهد السياسي والتوافق حول إيجاد صيغة مشتركة للحلّ الاقتصادي بين الحكومة والشركاء الاجتماعيين، الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف، هما بداية الخيط الذي سيقود تونس  إلى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أو من وراءه نادي باريس، وهذا لن يتحقق  بعد إرجاء إتحاد الشغل النظر في هذا الطرح أو سياسة الأمر الواقع التي تفرضها حكومة الرئيس على بقية الأطراف الفاعلين وتمسكّه بمطالب إجتماعية منها الزيادة في الأجور وعدم خفضها ورفض سياسة الحكومة تجاه المؤسسات العمومية وخاصة ذات الصبغة الاقتصادية التي من الممكن أن يتم اللجوء إلى خوصصتها حسب الشروط المطلوبة تفاديا لخوض غمار مسألة سيادية ، ذلك في ظلّ رفض قاطع من الصندوق الدولي التعامل مع كل طرف تونسي على حدى، بما يعني توافق الوفد التونسي على خارطة إقتصادية وحسب الشروط هو الكرسي الذي سيسحب لتونس لبداية المفاوضات من جديد.

ولهذا سيكون قيس سعيّد مجبرا على تعديل بعض من نقاط خارطة مشروعه السياسي البديل وأساليب النهج السياسي الذي يعتمده حاليا بإعتبار أن من يقف وراء الستارة الاقتصادية هم أنفسهم من رفضوا إستمرار الأزمة السياسية وتفرّد سعيّد بمنصة المسرح وتواجده في كل فصول المشهد السياسي،  وأمام رفض رئيس الدولة لتقسيم المشهد تحاشيا لعودته إلى المربّع الأول قبل 25 جويلية 2021 ورفض الأطراف الفاعلة هذه السياسة يبقى حال المالية التونسية في حالة إحتضار بوجود الترياق في أيدي المؤسسات المالية الدولية، وضمن هذا الاطار سيبقى على قيس سعيّد وحكومته وضع خطة إقتصادية محكمة حتى يتمكّن من اللعب مع نوادي المال ورجال الأعمال.

مطارق تجييش الشعب بتفاقم الأزمة الاقتصادية ومطارق شروط الصناديق الدولية تدقّ المسامير في نعش كل حلّ تسارع إليه الحكومة أو توجهات قيس سعيّد الاقتصادية، وذاك قد يسقط أغلب الطموحات في نجاح الخارطة السياسية.