مصطفى حفيظ

منذ أيام أعلنت السلطة في الجزائر عن موعد إجراء انتخابات المجالس الولائية والبلدية، وحددت ذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الجاري، ويأتي هذا الإعلان بعد أيام من لقاء الرئيس عبد المجيد تبّون برئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي، والمعطيات المتوفرة تقول إنّ اللقاء كان بخصوص التحضير للموعد الانتخابي الذي يكتسي أهمّية كبيرة بالنسبة للسلطة لاستكمال بناء المؤسسات الدستورية من جديد. لكن، جاء هذا الإعلان في وقت تشهد فيه المنظومة الصحية في الجزائر تدهورا بسبب الموجة الثالثة من جائحة كورونا، حيث لا يبدو أن الجزائريين يحتاجون لانتخابات أكثر من حاجتهم لقارورة أكسجين. فهل يعقل أن تنظم انتخابات في عزّ كورونا والناس تبحث يمينا وشمالا عن قارورة أكسجين بعدما بات مستحيلا استقبال كل الحالات الحرجة؟ وحتى وإن نفت الوزارة وجود أزمة أكسجين بالمستشفيات، فهل يعقل أن تغفل عن اتخاذ إجراءات استباقية قبل استفحال الفيروس في سلالته المتحورة الهندية "دلتا"؟ وهل يجب أن تنتظر السلطة دائما أن يحرجها العمل التضامني الشعبي كي تتحرك في الأخير لتغطية العجز؟

يبدو أن موضوع الانتخابات لا يهمّ في الوقت الراهن سوى السلطة السياسية فقط، فقد جاء الإعلان عن ذلك في توقيت سيّء وسط أزمة تعيشها أغلب المستشفيات بسبب نقص الأكسجين وصعوبة التكفل بكل الحالات الحرجة، من وفيات غير مصرح بها رسميا إلى عراقيل لدخول أطقم طبية جزائرية من الخارج، وبروز حملات تضامنية واسعة من مواطنين ورجال أعمال. وسط هذه المعمعة، أعلنت الرئاسة الجزائرية بعد اجتماع المجلس الأعلى للأمن عن موعد اجراء الانتخابات المحلية وربطته بتحسن الوضع الصحي. طبعا، ذلك أمر معقول، لأنه في حال عدم تحسّن الوضع فالأكيد أن الموعد سيؤخر قليلا، برغم الحاجة لتنظيمها لاستكمال مسار تجديد المؤسسات الدستورية. إذن، حسب المعطيات الرسمية ستجري انتخابات المجالس الولائية والبلدية، أو ما يعرف بالجزائر بالانتخابات المحلية، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. هذا الخبر حفّز بعض الأحزاب السياسية كي تحضّر نفسها وتستنفر قواعدها النضالية استعدادا لهذا الموعد الانتخابي الهام، فهو هام بالنسبة للأحزاب والسلطة مع. فالسلطة تريد أن تستكمل المسار السياسي الذي شرعت فيه منذ الانتخابات الرئاسية في أواخر 2019، وهو إعادة انتخاب المؤسسات الدستورية من خلال انتخابات مسبقة، وهو بمنظور السلطة استجابة لمطالب الحراك الشعبي بنحو ما، وآخر هذه الاستحقاقات هي الانتخابات المحلية، أي المجالس الولائية والبلدية، وهي الأقرب للمواطن من حيث التسيير والاهتمام بمشاكله واحتياجاته اليومية. لكن هل ما زال الجزائريون يهتمون بالانتخابات، وفي هذا الظرف بالذّات؟ الأكيد أن السلطة تعرف ذلك جيّدا، فالمقاطعة الأخيرة المسجّلة في انتخابات البرلمان كشفت أنّ قرابة 20 مليون جزائري لا تهمّه الانتخابات، أي من أصل أكثر من 24 مليون جزائري مسجّل في الهيئة الناخبة، 19مليون منهم قاطعوا الاقتراع، وقالوا لا للانتخابات، والبقية بين أصوات ملغاة وأصوات وزّعت على طبقة سياسية لا تتمتع بالشعبية ومطعون في شرعيتها، ومنه يتّضح حجم البعد بين ما ترغب به السلطة وما يبحث عنه عموم الشعب في الظرف الراهن، متمثل في تكفل صحّي أمثل وعاجل بالحالات الحرجة المرتفعة بشكل يومي جراء الجائحة. فكيف ستقنع الأحزاب السياسية مثلا الناخبين في الحملة الانتخابية المقبلة أن التصويت مهم وسيخرجهم من مشاكلهم اليومية، بطالة، حيث نجد قدرة شرائية ضعيفة يقابلها تدهور قيمة العملة المحلية في مقابل العملات الصعبة (الأورو والدولار الأمريكي)، واقتصاد معتمد على ريع المحروقات؟ كيف سيقتنع الجزائريون بمدى جدّية العملية الانتخابية في هذه الظروف، ووزارة الصحة تعلن أن السلالة الهندية المتحورة لفيروس كورونا فاجأتها؟   

في الجزائر هناك حفنة من الأحزاب تستجيب بسرعة لهكذا مواعيد سياسية، فبمجرد أن التقى الرئيس تبّون برئيس هيئة الانتخابات شرفي، وحتى قبل معرفة تاريخ تنظيم هذه الانتخابات، بدأت هذه الأحزاب تتحرك ضاربة الأزمة الصحية والوضع الحرج الذي تمرّ به البلاد جراء الموجة الثالثة لجائحة كورونا عرض الحائط، والتي أودت بحياة المئات وخلّفت آلاف الإصابات منها العديد من الحالات الحرجة. وسط كل هذا، لم تجد هذه التشكيلات السياسية، منها أحزاب تشارك في الحكومة الحالية وتساند السلطة، أيّ حرج في الانطلاق في تحضيراتها للموعد الانتخابي. أما البعض الآخر ففهم أنّ الظرف لا يسمح بالحديث عن الانتخابات في وقت تسجل فيه البلاد وفيات يومية بسبب فيروس كورونا.

الهبّة التضامنية التي أحرجت السلطة 

بشكل ما، تظهر حملات التضامن الشعبية الواسعة مع مرضى كورونا بكامل التراب الجزائري روح التضامن والتآزر بين الجزائريين بعد أن فقدوا الأمل في مقدرة وإمكانات المنظومة الصحية الجزائرية، التي على ما يبدو بقيت مشلولة أمام تفاقم عدد الإصابات في أغلب ولايات البلاد. وأيضا، والأهم من ذلك، تكشف الهبّة التضامنية الشعبية لجمع التبرّعات لاقتناء وتزويد المستشفيات العمومية بالأكسيجين، أنّ حاجة الجزائريين حاليا إلى التكفل بالمرضى أكثر من حاجتهم لانتخابات أيّا كان شكلها، وهذا الأمر أحرج السلطة أو ربما سيحرجها لاحقا، ويبدو أن الرئاسة تداركت ذلك عندنا ربطت موعد هذه الانتخابات بتحسن الوضع الصحي العام في البلاد. لكن مهما يكن، فالوضع الوبائي المتأزم وأزمة الأكسجين التي كانت سببا في ارتفاع عدد الوفيات في أغلب المحافظات كشفا حجم تدهور المنظومة الصحية وحالة الاهتراء التي تتواجد عليها أغلب المؤسسات الصحية الجزائرية. وتظهر أزمة الأكسجين غياب أدنى استراتيجية بعيدة المدى لمثل هذه الأزمات. فالموجة الثالثة كانت فعلا على الأبواب، وقد حذّر الأطباء منها، لكن برغم ذلك، لم تتغير طريقة تسيير الأزمة من جانب وزارة الصحة، التي يبدو أنّها لم تكلف نفسها عناء إحصاء نقائص المستشفيات فيما يخص سبل التكفل الأمثل بالحالات الحرجة. فهل يعقل مثلا أن تحدث أزمة أكسجين في أغلب المستشفيات ليضطر أهالي المرضى للاستغاثة خارج المؤسسات الاستشفائية بحثا عمّن يتبرع لها أو حتى يبيعها أو يعبّئ لها قارورة أكسجين؟ أين كان الخلل؟ 

أظهرت حملات التبرّع الواسعة داخل الوطن وخارجه لاقتناء مولّدات الأكسجين والأجهزة المستعملة في ذلك لتغطية العجز المسجل في المستشفيات العمومية مدى عمق الأزمة، فقد اضطر الجزائريون إلى تحمل مسؤولية التكفل بالعجز المسجل في الأكسجين والذي كان سببا رئيسا في وفاة العشرات من الحالات الحرجة. فالمستشفيات لم تتحمل الأعداد الهائلة التي توافدت عليها منذ بداية الموجة الثالثة لكورونا مع ظهور السلالة الهندية "دلتا" في الجزائر، مع ظهور جشع لدى التجار والمضاربين الذين حوّلوا أزمة قارورات الأكسجين المستعمل في أجهزة التنفس الاصطناعي بالمستشفيات إلى تجارة ربحية دون ضمير. لقد أثارت هذه الحملة هبّة واسعة من طرف الجزائريين الذين أظهروا روح التآزر والتضامن بينهم لدرجة تبرّع رجال مال وأعمال من التجار وأصحاب الشركات بالملايير لدعم المستشفيات بهذه الأجهزة ومولّدات الأكسجين، وحتى الجالية الجزائرية بالخارج سارعت للاستجابة للنداء وتم جمع معدّات وأجهزة طبّية. لكن لقيت عراقيل كالعادة للدخول إلى البلاد، ثم تدخلت السلطة عبر السفارة الجزائرية في فرنسا بحجة تنظيم العملية وضمان دخول الأطباء المتطوعين. غير أن طول الانتظار أثار غضب وانزعاج المتطوعين في وقت تتطلب الحالة الصحية الحرجة التي تعيشها البلاد الإسراع وتسهيل إجراءات من هذا النوع. 

وفي الوقت الذي كان سكان منطقة القبائل في تيزي وزو أو في بجاية مثلا يسارعون للتضامن في ما بينهم لتوفير محطات توليد الأكسجين للمستشفيات بهذه المنطقة، بعد الهبة التي تبرّع بها صاحب مؤسسة كبرى في بجاية، وحتى الهبات التي أرسلها أفراد من الجالية الجزائرية في الخارج لذات الغرض، لم يكن قد تحرك ولا مصنع حديد في الجزائر لتغطية العجز، فحتى المصنع التركي للحديد الذي يستثمر في الجزائر بشراكة جزائرية في ولاية الشلف رفض التوقف عن استعمال هذه المادة والتضامن مع المستشفيات في أزمتها. هذا طبعا ما تم تداوله عبر منصّات التواصل الاجتماعي، ومهما يكن، فإنّ الهبّة التضامنية والتحرك الشعبي للتكفل بالمرضى جعل المصالح المعنية تتحرك في الأخير، حيث أمرت السلطات مصانع الحديد بأن تتفرغ لإنتاج الأكسجين. 

في الأخير، يجب الإشارة إلى أن السلطة سارعت لاحتواء الأزمة وأعلنت عن وصول شحنات جديدة من مولدات الاكسجين جلبتها من الخارج، مع مليون جرعة من اللقاح الصيني أيضا. ولعل هذا التحرك السريع جاء بعد الإحراج الذي وقعت فيه بسبب انكشاف حجم ضعف المنظومة الصحية، التي بدت مشلولة أمام حجم الإصابات جرّاء السلالة الجديدة التي فاجأت وزارة الصحة كما قال الوزير. لكن، ألم يكن حريّا بها أن تضع خطة استباقية لمثل هذه الحالات؟ وقد تساءل البعض في الجزائر عن سبب غياب أيّ مخطط صحي استراتيجي يتكفل التكفل الأمثل بالأزمة في ظروف مثل التي تعيشها الجزائر حاليا. وبالنتيجة، هل كان من المعقول التفكير في تنظيم انتخابات في وضع كارثي تعيشه البلاد؟