يعيش الليبيون وعلى مختلف شرائحهم اليوم ظروفاً صعبة، لم يشهد لها مزيج في سابق تاريخهم.  فليبيا اليوم، خاصّةً بعد تدويل مفارقاتها السياسية والاقتصادية وهويتهم، يعاني من انحدار كبير في عموم الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والصحّية، ومن غياب لمشروع إنقاذ ليبي يتّفق عليه أصحاب القدرة على القرار في داخل ليبيا وحتى خارجها. ويُخطئ من يظنَّ أنّ المسالة الليبية سوف تنتهي باتّفاق الليبيين أنفسهم وفيما بينهم فقط. ويخطئ من يظنّ اليوم أنّ استدعاء مستقبل الليبيين سيتحقّق بإرادة ليبية صرفه. 

لقد تحولت سلسلة المصاعب الليبية كلّها كنتيجة خليط من عوامل مركّبة داخلية وخارجية تتحرّك معاً لتصنع أتون الحروب والصراعات المسلّحة ً، والتسويات السياسية المسكنة لوعي الليبيين أحياناً أخرى. هكذا هو تحول التاريخ الليبي المعاصر منذ كان متصرفية عثمانية تركية، في أواخر القرن التاسع عشر. ثمّ هكذا كان الحال في اربعينية القرن الماضي حينما شهدت ليبيا أحداثاً هي أيضاً مزيجاً من عناصر أزمة سياسية داخلية وخارجية، مع تحريك وتأثير خارجي نتج عنهُ إعلان مشروع "الاستقلال" وانتهت الازمة الليبية بتفاهم فرنسي / بريطاني بتولّي الأمير ادريس حكم ليبيا! 

في نهاية هذا العقد من تاريخ ليبيا المتأزم بفواعله الداخلية والخارجية، جاءت إعادة الانتشار للقوات المسلحة العربية الليبية، من حول أطراف العاصمة الليبية، لتؤكّد من جديد هذه الخلاصة عن تاريخ المصاعب المتحكم فيها عن بعد للحالة الليبية، حيث يمتزج الصراع الداخلي الليبي بأسبابه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مع الأبعاد الإقليمية والدولية، وتحديداً حول الموقف الإقليمي والدولي من المسالة الليبية وتطوراتها، ومن الوجود الأجنبي، والمليشيات المسلحة فوق الأرض الليبية. 

أيضاً، استمرّت ليبيا مهدّدة بالانهيار، أن لم تنهار كليا، لأنّ مشاريع الصخيرات وبرلين وروما وجنيف والقاهرة، كانت يجب أن تؤدّي إلى إلغاء حالة الطائفية السياسة المستجدة، والقبلية السياسية المستجدة في الحالة الليبية، مع الحفاظ على ليبيا كوطن قائم حيث المطلوب ليس إلغاء أو اقصاء أيّ طرف بل إلغاء الطائفية السياسية المستجدة، ومنها القائمة على الحزبية والمصالح الدونية، فكلاهما يؤدّيان إلى حروب بالوكالة، والي استغلال الخارج لصراعات الداخل. 

ما يحدث في ليبيا اليوم هو أكبر من الليبيين، وأكبر من الجغرافيا ومواردها. فأطراف إقليمية ودولية عديدة وظّفت، ولا تزال توظف طوال العقد الحالي، الأرض ومواردها وصراعاتها بالوكالة من أجل مشاريعها الخاصة وحروبها الوكالتيه فوق الأرض الليبية، ولكنّ ذلك ما كان ليحدث ذلك لولا تعامل الليبيين ومنهم النخب المدعمة من الخارج، كما الأطراف الإقليمية والدولية، مع ليبيا بأنّه ساحة صراع، وساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية، وليس وطناً واحداً لكلّ أبنائه.

ورغم شغف الليبيين بمتابعة التطورات الدولية والإقليمية، وبقدرتهم المتميّزة على التحليل السياسي الذي يربط أصغر قضية محلّية بأبعاد دولية كبرى، فإنّ أفعالهم وسلوكهم معظمها لا تخرج عن الدائرة الضيّقة للقبيلة، والمصلحة، والعائلة والجهة، والمناطيقية أو المنطقة. وهم "يكونون كما يُولّى عليهم"، و" يُولّى عليهم كما يكونون". فتتكرّر المأساة في كلّ حقبة زمنية، طالما أنّ جذور المشكلة كامنة في العقلية الضيّقة التي تتحدّث عن "العولمة" من جهة، وتتصرّف بوحي من مصالح الحي والشارع، والمنطقة، والقبيلة من جهةٍ أخرى!

طبعاً، هو سؤالٌ ليبي مشروع عن مستقبل حصر العناصر المسلحة، والمليشيات بالمؤسّسات الرسمية فقط، لكن هذا الأمر أصبح، كما القضايا الليبية الأخرى، مادّة في صراع إقليمي/دولي، ومشاريع سياسية للمنطقة، عوضاً عن اعتباره مسألة وطنية عامّة يشترك كل ليبي في تحمّل تبعاتها خلال فترة التدويل للمسالة الليبية، وهي قضية مرتبطة حتماً بتوفّر حاضنة وطنية ذات قيادة تاريخيه، وهو أمرٌ لم يحصل بعد، ولن يحصل في الأفق القريب.

وها هي ليبيا اليوم تعيش مزيجاً من تأثيرات السياسة والتاريخ والجغرافيا والموارد على كيانها ونظامها، وعلى أمنها واستقرارها، فماضي ليبيا وتاريخ وظروف نشأتها كان على أيدي المحتل الإيطالي، وكيفية بناء نظامها القبلي والاجتماعي في مرحلة الاستعمار الإيطالي، وبعده الانتداب البريطاني ثمّ بعد حصولها على "الاستقلال" سنة 1951، كلّها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداث ليبيا التاريخ والجغرافيا. 

واليوم إذا كان الليبيون لا يستطيعوا تغيير موقعهم الجغرافي، وتأثيراته، وانعكاسات صراعاته على أوضاع ليبيا، فإنّ بإمكانهم حتماً تصحيح الخطيئة التاريخية المستمرّة في طبيعة نظامهم القبلي، والتشرذم المناطقي، والطائفية السياسية الجديدة والمستجدة عليهم. وعندما يفعل الليبيون ذلك يصونوا ارضهم وقيمهم وثرواتهم من الوقوع في شرك قوس الازمات الإقليمي والعالمي.  

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة