حميد زناز

لقد بات واضحا للعيان أن كل القطاعات أمست فاشلة في تونس، وبات المواطن التونسي يعاني من ذلك التردي الشامل وما انفك يطالب بتغيير الأوضاع منذ أعوام. وفي الوقت الذي كان الغنوشي يظن أنه انتصر وسيطر، خرج التونسيون يوم 25 جويلية الفائت معبرين عن تجاوبهم مع قرارات رئيسهم قيس سعيد ومحملين النهضة ورئيسها مسؤولية ما لحق ببلادهم من أزمات خانقة.  تدنى النمو الاقتصادي إلى مستويات لم تعرفها تونس على الإطلاق  وانهارت القدرة الشرائية لمعظم المواطنين.

 وما يعقّد أكثر مناورات النهضة موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة العريقة، التي اعتبرت في بيان قوي قرارات السيد قيس سعيد استجابة لمطالب شعبية بعد تفاقم الأزمة الشاملة في البلد وعجز النهضة  وحلفائها عن إيجاد حلول للخروج من التعفن، الذي تركوه يتراكم منذ أن سيطروا على الحكم. والأخطر من ذلك تنديد الاتحاد بلجوء قيادات من النهضة إلى الاستقواء بجهات خارجية وتحريضها على تونس.

لقد عانت تونس الأمرين من الإسلام السياسي النهضوي لمدة عشرية كاملة تم فيها إضعاف المنظومة الصّحّية والتّعليميّة والإداريّة بشكل غير مسبوق. كما دُجّن معظم الإعلام وأصبح تحت إمرة الغنوشيين والمتآمرين معهم.  ولقد تسلل العبث إلى ساحة القضاء التونسي، الذي تحكم فيه النهضويون . ولم تسلم حتى الحياة الثقافية، قلب تونس النابض، من شر المتحالفين ضد الاستثناء التنويري التونسي، إذ اعتبرها أحد رؤساء الحكومة السابقين مجرد تسلية لا أكثر، يمكن الاستغناء عنها. 

أما الفساد فقد أصبحت فضائحه على كل لسان، إذ نخر المنظومة السياسية، حتى أصبح ينظر الى السياسي في تونس على أنه مجرد ناهب للمال العام يخدم نفسه  وحزبه عمليا ويتشدق بحب الوطن  والدين لفظيا. وستكون قضايا الرشوة والفساد والاغتيالات السياسية، التي ستعرض على القضاء، صادمة للتونسيين الذين صوتوا لصالح الأصوليين.

 وما أماط اللثام عن ذلك التسيير الفاشل للدولة المنذر بالخراب ما أصبح يجري في مجلس النواب من ابتذال وعنف لفظي وجسدي إلى درجة وصول أحد النواب إلى الاعتداء على النائبة عبير موسي في جلسة برلمانية دون حياء ولا رجولة.  وفي الحقيقة لم يعد لهذا المجلس من وظيفة سوى مراعاة مصالح رئيسه راشد الغنوشي ومصالح حزب النهضة وأجنداته، التي يمليها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. لقد حوّل راشد الغنوشي مجلس الشعب إلى هيئة ملحقة لحزب النهضة. ورغم كل الخطابات الديمقراطية، فمن المرجح جدا أن يحل الرئيس قيس سعيد ذلك البرلمان، الذي عاث فيه المرتشون وأنصار الإرهاب فسادا. "سيدافع الشعب عن الشرعية الدستورية"، قال راشد الغنوشي! و هو يعلم جيدا أن الشعب لن يدافع عن دستور فبركه هو وعصابته الإخوانية ليؤبدوا بقاءهم في الحكم. ولكنه كبراغماتي وميكافيلي سرعان ما غير موقفه، وأصبح يقول بأنه ينبغي تحويل خطوات الرئيس قيس سعيد إلى فرصة للإصلاح  بعدما لم يستجب إلى دعوته لمحاصرة البرلمان سوى عدد القليل من الأنصار، بينما جاء أنصار قيس سعيد بالمئات! وهذا هو الغنوشي، يحمل وجها وقناعا لكل منهما وظيفة تحددها الظروف وميزان القوى.

وعلى عكس   الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الأوروبية، ثارت ثائرة شيوخ  الإخوان وعلماؤهم وتنظيماتهم عبر العالم بمجرد أن سمعوا صفارة نهاية اللعب الإخواني بمستقبل تونس، التي أطلقها الرئيس التونسي. وراحوا عبر قنواتهم يتباكون عن  الثورة والديمقراطية في تونس ويتحدثون  دون حياء  عن   " انقلاب".  و قد ظهر نفاق إخوان الجزائر بوقوفهم مع   النهضة  ودفاعهم عن الدستور  في حين أنهم لما كانوا يريدون الاستيلاء على الحراك في الجزائر  كانوا يرددون أن "لا معنى للحديث عن الدستور لما يكون الشعب كله في الشوارع"  إنهم مصطفون وراء الغنوشي وليس مع الشعب التونسي، كما  كانوا دائما مصطفين وراء النظام في الجزائر بدل الشعب. لماذا لا يعتبرون، ككل تلك الفرحة العارمة لأغلبية  الشعب التونسي، ليلة سقوط الغنوشي  عبارة عن استفتاء ضده وضد مشروع الإسلام السياسي برمته في تونس؟

في الحقيقة إن كان هناك انقلاب فهو انقلاب على رداءة النهضة وأوهام عصابة الإخوان الدولية. وبغض النظر عن الحيثيات القانونية و التأويلات الدستورية، كان من واجب رئيس الجمهورية المنتخب من طرف أغلبية التونسيين أن يتدخل ليوقف المهزلة ويعيد تونس إلى ما قبل الإسلام السياسي. 

تفردت تونس دائما وستتفرد هذه المرة لتكون مقبرة المشروع الإخواني. وربما أكبر خطأ ارتكبه أحفاد حسن البنا هو  محاولتهم تجريب أفكارهم المعتلة المتخلفة على أرض أكثر البلدان حداثة وتعلمُنا في المنطقة: تونس الحبيب بورقيبة التي ستدق آخر مسمار في نعش مشروعهم القروسطي.