برهان هلّاك
"إن قضية الصحراء هي المحرار الذي يفحص المغرب من خلاله بيئته الدولية، وهي المعيار الذي يقيس مدى عمق الصداقات ومدى فعالية شراكة المملكة مع الدول الأخرى". ورد منطوق القول هذا كجزء من خطاب رسمي ألقاه الملك محمد السادس في 20 أوت 2022، وهي "جملة على شكل تحذير ستستغرق منا أقل من أسبوع قبل معرفة أول مجال لتجريبها؛ ففي 26 أوت، أعلنت المملكة عن استدعاء سفيرها في تونس، وهو إجراء تم اعتماد مبدأ المعاملة بالمثل في التجاوب معه من قبل تونس التي استدعت سفيرها بالمغرب هي الأخرى"، وهو ما ورد في مقال "جون أفريك Jeune Afrique " الذي أشار إلى أنه، "و منذ ذلك الحين، تنظر الدولتان الشقيقتان في المغرب الكبير إلى بعضهما البعض كما ينظر كائنان من الخزف على رفين متقابلين إلى بعضهما البعض".
وتأتي كل هذه التطورات الديبلوماسية، التي تكون مؤشرا على توتر إقليمي بين بلدين مهمين في فضاء المغرب العربي، عقب استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد زعيم جبهة البوليساريو بشكل رسمي بمطار قرطاج الدولي في 27 أغسطس الفارط، وخاصة بعد أن خصّه بلقاء مطول في بهو المطار المذكور. والحق يقال أن هذا التوتر قد انطلق، من الجانب المغربي على الأقل، منذ أن تم الإعلان عن مشاركة المملكة الصحراوية، غريم المملكة الأزلي المجاور لها، في قمة طوكيو للتنمية في أفريقيا “تيكاد 8” التي عُقدت في تونس يومي 27 و28 أوت الفارط. لقد أسال موضوع التوتر في العلاقات المغربية ـ التونسية الكثير من الحبر في الفترة الماضية، بل كان هناك سيل فياض من المشادات الكلامية في إطار خطابات موتورة ومتشنجة قد أدت بالبعض، للأسف، إلى التجريح والسّباب والتخوين. وبعيدا عن هذا المنطق البائس الذي لا يعود إلا بالوبال على كلا البلدين، فإنه من الضروري أن نباشر الأمر ببعض من التعقل عبر النظر إلى أبعاده التي تتجاوز العاطفة الوطنية الجياشة والموتورة.
لا يمكن أن نقتنع بأن سبب التوتر الحديث للعلاقات بين المملكة المغربية وتونس مأتاه مشاركة "جبهة البوليساريو" والجمهورية الصحراوية ممثلة في شخص رئيسها في قمة "تيكاد 8"، وذلك لسبب رئيسي متمثل في تاريخ هذه القمة في حد ذاتها، أو بالأحرى تاريخ مشاركات الجمهورية الصحراوية في فعالياتها؛ سنة 2016، انعقدت دورة قمة تيكاد السادسة (تيكاد 6) بمشاركة الجمهورية الصحراوية والمملكة المغربية على حد السواء. ولم تنسحب المملكة المغربية رغم أن والوفد المغربي قد اعتدى لفظيا وجسديا على وفد الجمهورية الصحراوية، اعتداء سجلت دول عديدة في ذلك الحين (من قبيل الموزنبيق) شجبها له. كما تم تنظيم قمة »تيكاد « 7 في كينيا سنة 2017، لتشهد هذه الدورة كذلك مشاركة كلا الطرفين في فعالياتها. وباعتبار أن الاتحاد الافريقي يعتبر الجمهورية الصحراوية دولة عضو في الاتحاد، وباعتبار أن الاتحاد هو من يوجه الدعوة للدول الافريقية المشاركة في دورات القمة بالاتفاق مع اليابان، فإن الاتحاد الافريقي هو الذي دعا الجمهورية الصحراوية للمشاركة في القمة الافريقية الاوروبية 2022 التي انعقدت ببروكسال، و تيكاد 6 في اليابان و تيكاد 7 في كينيا بمشاركة المغرب الذي لم ينسحب من كلتي الفعاليات الدولية المذكورة. فما الذي يجعل من مشاركة الجمهورية الصحراوية في الدورة الثامنة لقمة تيكاد المنعقدة بتونس هذه السنة إشكالا أعظم بالنسبة للمغرب؟
لقد حافظت تونس عبر تاريخها على موقف حيادي تجاه ملف الصحراء، وحرصت السياسة الخارجية التونسية على موازنة مواقفها تجاه الصراع المغربي ـ الجزائري. بيد أن استقبال تونس لرئيس الجمهورية الصحراوية يمكن أنه قد خلق انطباعا لدى المغرب باصطفاف تونسي وراء "الغريم" الجزائري؛ يقول الدكتور حمدي بشير، الأكاديمي والباحث المصري في العلوم السياسية، أن تونس قد التزمت تاريخياً بالحياد الإيجابي تجاه الصراع الجزائري ـ المغربي حول الصحراء. ولذلك يعد استقبال الرئيس التونسي لزعيم جبهة البوليساريو سابقة في علاقة تونس بالمغرب. كانت تونس على مدى عقود طويلة تتخذ مواقف داعمة لمغربية الصحراء ورافضة للاعتراف بأطروحة الانفصال، قبل أن تبدأ هذه المواقف في “التزعزع” بشكل تدريجي في السنوات الأخيرة، خاصة منذ تولي قيس سعيد رئاسة البلاد. كما أن "المراجعات" التونسية التي تفترضها المغرب في علاقة بالموقف التونسي الرسمي من قضية الصحراء المغربية قد تدعمت بامتناع تونس عن التصويت لمصلحة التمديد لبعثة الأمم المتحدة في الصحراء “مينورسو” لسنة إضافية، امتناع أثار حفيظة المغرب رغم موافقة مجلس الأمن على تمديد ولاية “مينورسو” لمدة عام آخر بتأييد 13 عضواً للقرار، في حين امتنعت روسيا وتونس عن التصويت.
ومع ذلك، فإن الحديث عن دلالات لاستقبال الرئيس قيس سعيد بنفسه لرئيس الجمهورية الصحراوية واجتماعه معه في قاعة التشريفات الرسمية بمطار تونس قرطاج الدولي قد لا يكون مجانبا للصواب تماما؛ يشير المراقبون لمألات الأمور السياسية في تونس إلى أن هناك رغبة لدى الرئيس التونسي في إحداث تغييرات في ما يتعلق بالسياسة الخارجية لتونس . وربما يكون هذا الاستقبال رسالة يتم توجيهها للداخل يكون مستقبلوها القوى السياسية الداعمة للموقف المغربي، في تدلال على أن سياسة تونس الخارجية سوف يتم تغييرها. وقد يشير هذا الموقف أيضاً إلى رغبة الرئيس التونسي في التخفيف من الضغوط الجزائرية في تحريك الجماعات الإسلامية الداخلية في المغرب، لا سيما الإخوان المسلمين الذين يعارضون سياسة الرئيس قيس الداخلية حسب د. حمدي بشير. بالإضافة إلى ذلك، يذهب بعض المراقبين إلى أن في الأمر "مساومة تونسية للمغرب" لدعم مشروع الرئيس قيس سعيد للتغيير، إذ أن موقف الرئيس التونسي يبرز سعيا للاستفادة من الصراع المغربي ـ الجزائري الدائر منذ فترة طويلة للحصول على الدعم السياسي والاقتصادي الذي تجده الرئاسة التونسية ضروريا، وخاصة في سياق الأزمة السياسية والاقتصادية الداخلية التي تمر بها البلاد.
ورغم ذلك، يكون الموقف المغربي الحاد من اللعبة الديبلوماسية والاستراتيجية غير ذي تفسير. فإذا ما كانت تونس تسعى لتدعيم مصالحها، وذلك من حقها كدولة وازنة في الفضاء السياسي المغاربي، فإن التلويح بقطع العلاقات المغربية مع تونس لهو داخل في باب عدم حسن التعامل مع الدول المكونة جغرافيا للمغرب العربي، بل هو من المحتمل أن يؤدي تعميق عزلة المملكة المغربية بعد صراع مع الجزائر و"عدم تفاهم" مع الاتحاد الإفريقي في أفضل الحالات. كما أن حدة هذا الموقف، بالإضافة إلى خطوات أخرى للأسف ساذجة، من قبيل تحذير منظمة الدفاع عن المستهلك المغربية من اقتناء المنتجات التونسية في المغرب، والحملات السبرانية المغربية لتشويه صورة تونس على وسائط التواصل الاجتماعي خاصة، لهو أمر مشين وينم عن عصابية غير مفهومة ومقبولة. وبالمحصلة، فإن التبعات الديبلوماسية لمثل هذا الموقف لا تخدم إلا حسن التوظيف السياسي من جانب البوليساريو لدعم موقفهم بشأن القضية الصحراوية؛ قال القيادي البارز في جبهة البوليساريو والمكلف بالشؤون الأفريقية في الجبهة، محمد يسلم بيسط، في تعليق على الجدل الذي أثاره استقبال الرئيس التونسي لزعيم الجبهة، إبراهيم غالي، أنّ موقف تونس سليم ولا يستدعي كل هذا الجدل والغضب من جانب المغرب. ووصف الموقف المغربي من تونس بأنه “موقف معيب وغير مقبول”، وأن زعيم البوليساريو سبق له أن شارك في قمة “تيكاد 7” التي انعقدت في اليابان دون أن يقاطع الوفد المغربي تلك الدورة من القمة ودون أن يسحب المغرب سفيرة باليابان. ولكن “قام المغرب بهذا السلوك الابتزازي المشين” حين تعلق الأمر بالمشاركة في “تيكاد 8” في تونس.