مصطفى حفيظ

إنّ مقابلة كروية بين فريقين هي في النهاية فُرجة ومتعة وامتاع للجماهير، أليست كرة القدم هي مجرد لعبة فقط؟ وفيها رابح وخاسر؟ لماذا إذن يحوّلها المشجّعون إلى ساحة حرب؟ يقول لك: اللاعب يقصف الكرة، هدف صاروخي، قذيفة صاروخية، فمن منظور التحليل النفسي، ينزع البشر نحو التدمير، هناك طاقة مشحونة نحو الحروب، وهذه النزعة التدميرية للبشر(ثاناتوس) يتم استزافها واستقطابها في الالعاب العالمية بين الدول كنوع من التفريغ النفسي وازاحة الثقل. فما تمظهرات هذا التصوّر التحليل نفسي عندنا؟

قد يتساءل القارئ ما علاقة جماهير كرة القدم بالنزعة التدميرية للبشر التي يتحدث عنها التحليل النفسي، هل ينزع هؤلاء المحبّون للكرة إلى التدمير؟ ولماذا؟ فهذه اللغة المستعملة في الملاعب، وحتى عبر وسائل الاعلام، توحي بأننا في زمن الحرب، أو كأنّ هذا الفريق في معركة مع الفريق الخصم، ويتصوره المشجّعون كالعدوّ الذي وجب مقاتلته والهجوم أو الاغارة عليه، نجد عبارات مثل: صاروخ، قذيفة، هدف قاتل، هجمة مرتدة، هزيمة، قصف، ...الخ، يوجد الكثير منها، سواء تلك التي يطلقها جمهور فريق كروي ما، أو تلك التي نقرأها في عناوين الصحف، أو نسمعها ونشاهد صورها عبر شاشات القنوات الفضائية الرياضية المتخصصة، أو حتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي في أيامنا هذه، شعارات عشّاق كرة القدّم، كلها مشحونة بالكراهية، أو بالحقد والعنصرية للفريق الخصم، وجمهوره، وأحيانا حتى البلد نفسه.

ويكفينا مثالا على هذا، ما حدث منذ أكثر من عشرة سنوات بين الجزائر ومصر بعد مباراة تصفوية للتأهل لكأس العالم في 2010 التي نظّمت في جنوب افريقيا، أقيمت المباراة في مصر، ثم في السودان، حيث فازت الجزائر في مباراة فاصلة في ملعب أم درمان، حتى أن الصحافة في الجزائر وصفتها بعبارات حربية كـ: موقعة أم درمان، اسطورة ام درمان التاريخية للجزائر، ومعركة أم درمان...وظلّت الجماهير تحتفل وتردد لدرجة أصبحت أم درمان على كل لسان، حتى أن بعض المطاعم والمقاهي في الجزائر تسمّت بهذا الاسم تخليدا لهذه المباراة، وفي مصر كما في الجزائر، كانت الجماهير مشحونة بروح الفوز كما لو كان الصعود إلى كأس العالم مسألة وطنية، لقد فعلت السلطات السياسية الفاسدة في البلدين على شحن تلك الطاقة التدميرية للحشود وتحويل مجرد مباراة كروية إلى حرب يجب الفوز بها، ورأينا كيف كانت الصحافة في البلدين تلعب على الوتر الحساس وهو الوطنية، والكرامة إلى درجة تحوّلت مصر بمثابة عدوّ لجماهير الكرّة الجزائرية المشحونة بتلك النزعة التدميرية، ونفس الشيء بالنسبة للجماهير المصرية التي نجح نظام مبارك وقتها في تحريك نزعتها التدميرية واستقطابها وتوجيهها نحو الكرة خدمة لأغراض سياسية سلطوية، مع العلم أن ذلك مجرد تغطية على فشل منظومة حكم، والأمر سيان بالنسبة للجزائر.

ما أثار انتباهي كثيرا وأوقع في نفسي شيء يشبه الصدمة هو ذلك الفيديو الذي بثّه صاحب قناة يوتيوب، يكون أحدّ مشجّعي فريق كرة القدم الجزائريين، فيديو مضمونه هو مشهد لاعب الفريق الجزائري وهو يسجّل هدفا في مرمى شباك الفريق الخصم، وهو الفريق المغربي، وأنت تشاهد الفيديو، ترى اللاعب يجري ثم يضرب الكرة من بعيد، من وسط المعلب لتدخل شباك الحارس، ضربة صاروخية كما علّق صاحب القناة، بل وصفها بـ "قذيفة صاروخية"، هكذا كان عنوان الفيديو، ثم وأنت تواصل المشاهدة، ترى فعلا أن الكرة تحوّلت إلى صاروخ يقصف مرمى المنتخب المغربي، ثم نشاهد حدوث انفجار لهذا الصاروخ، طبعا، صاحب الفيديو، أبدع في صناعة الصورة بالمؤثّرات الخاصة ليرى كل من يشاهد هذا المحتوى بأنّ الهدف فعلا صاروخي وأحدث انفجارا مدمرا، لكن الحقيقة، هي أنّ نفسية صاحب هذا المحتوى هي ما يطلق عليها عالم النفس الألماني إريك فروم بـ "النزعة التدمرية البشرية"، لأن الواضح أن صانع الفيديو، وهو في النهاية، أحدّ عشّاق كرة القدّم، مشحون بروح انتقامية، عدوانية، وتدميرية، مع أنّ الهدف هو في حقيقة الأمر، مجرد هدف غيّر نتيجة المباراة الكروية التي هي مجرد لعبة لمتعة الجماهير.

نجد هذه النزعة التدميرية عند مشجّعي الكرة كما نجدها عند الصحافة الرياضية، فكثيرا ما نسمع المعلّق على مقابلة كروية يستعمل مقولات كـ "يقصف، أو هدف قاتل، أو ضربة صاروخية، أو قذيفة، أو مقولات تثير حساسية المشاهدين وأنصار الفريق الخصم، مثلما فعل المعلّق في قناة رياضية قطرية عندما استفزّ بكلماته أنصار المنتخب التونسي في مباراة لفريقهم في كأس العرب أمام فريق سوريا، أو عندما نشر على صفحته بموقع "تويتر" تغريدة قال فيها "محارب الصحراء مرّ من هنا" واضعا صورة لثلاثة لاعبين ساقطين أرضا وأمام لاعب الفريق الجزائري، دلالة الصورة والكلمة هي كأن الفريقين في حرب، أنظر مثلا كلمة" محاربي الصحراء"، أليس في كلمة "محاربي" أو محاربو.." دلالة قوية عن النزعة التدميرية، أو تلك الطاقة المشحونة لخوض الحرب التي يخزّنها البشر في مكبوتهم النفسي؟

يقول إريك فروم عن هذه النزعة التدميرية للبشر أو "التدميرية البشرية" حسب النسخة المترجمة عن كتابه "تشريح التدميرية البشرية"، "إنّ الانسان هو الكائن الوحيد القادر على إتيان عمليات عدوان تدمير قصدية في سلوكات مثل التعذيب والقتل، لا لشيء إلا للمتعة في القتل والتعذيب"، تحدث فروم أيضا عن هذه النزعة عندما ذكر في كتابه ما ذهب إليه فرويد عند حديثه عن عاطفة التدمير أو غريزة الموت "الثناتوس" ومساواتها بعاطفة الحبّ أو غريزة الحياة (الايروس)، يقول فروم "إنّ الانسان يمكن أن يدفعه الحب أو عاطفة التدمير، وهو في كل حالة يُشبع حاجة من حاجاته الوجودية: الحاجة إلى الإنجاز أو تحريك شيء.." وينطبق هذا الطرح على كرة القدم وجمهورها المشحون بتلك الطاقة المكنونة في داخله نحو "الثناتوس" أو "الايروس" مع أن عاطفة التدمير تغلب في أكثر الأحيان، يتمظهر ذلك في العنف اللفظي وأحيانا الجسدي على مدرّجات الملاعب، عندما تغضب الجماهير على فريق أو لاعب أو حكم المباراة، ثم تنزع لتفريغ تلك الشحنات من الغضب بأي وسيلة، شعارات معادية للفريق الخصم، لأنصاره، أو حتى سب وشتم أي طرف كان سببا في افساد متعتهم الكروية أو هزيمة فريقهم. 

النزعة التدميرية للبشر تجلت مثلا في عقلية هتلر الذي أخرج تلك الطاقة الكامنة في نفسه نحو "الثناتوس" أثناء الحرب على أعدائه في أوروبا والعالم، بعد الحرب العالمية الثانية، ولما كانت الجماهير مشحونة بعاطفة التدمير وحب الحرب، تفطنت حكومات الدول الحديثة الى ذلك، وظهرت بعد الحرب العالمية الثانية منافسات كأس العالم لكرة القدم، كانت حاجة السياسيين إلى توجيه تلك الطاقات والنزعات الكامنة في نفوس الحشود الهائلة من الشباب واستنزافها في الالعاب الرياضية بدل تركها تتمرد على السلطة السياسة، واستمرت الحكومة إلى اليوم في تلك السياسة، لذلك يتم تخصيص اموال طائلة لذات الغرض.

هذه النزعة التدميرية لها تطعيم فئوي عنصري (وطني/محلي/عربي/قاري/دولي/ افريقي/أوروبي/ ...)، كل تلك اللغة تُضمر بداخلها تلك النفسية الغاضبة الراغبة في تدمير الآخر، في الفوز عليه، في انهائه، في افناءه، في التفوّق عليه لاثباء هويّتنا ووجودنا، هل ينتهي مصيرنا هكذا، كينونات راغبة في الموت، في التدمير، في اسقاط كل صفات الشرّ على الآخر، الآخر هو الفريق الخصم، هو العدوّ، بدلا من أن تغلب في أنفسنا الرغبة في الحياة (الايروس)، تلبسنا تلك الحاجة إلى التدمير (الثناتوس)، لكن ما يثير التساؤل دوما هو: لماذا تبرز النزعات الوطنية والههوية اثناء المباريات الدولية في كرة القدم؟ وما علاقة العلم الوطني بالفوز في لعبة هدفها الامتاع والفُرجة ...؟ ولماذا تسود الرغبة في التفوّق واثبات الذات؟ هل يحدث ذلك بسبب الشعور بالنقص؟ بالحرمان؟ هل تلجأ الجماهير للكرة كتعويض عن ذلك النقص والحرمان من حياة رغبت في عيشها ولم يُسعفها الحظّ في ذلك؟

ومن البديهي أن كرة القدم، سواء عندنا أو في أي مكان في العالم هي لعبة محبوبة عند كل الناس، لكن الفئات المحرومة، المكبوتة والمهمشة اجتماعيا، التي ليس لديها صوت، تلجأ للكرة للتنفيس عن ذلك الثقل النفسي وتُخرجه في مقولات التشجيع، مقولات تعبّر عن فرحة غائبة في حياتهم اليومية، وسعادة يحلمون بها، وهل تكفي كرة القدم لنشر فكرة المواطنة وحب الوطن مثلا؟ وهل الوطنية هي الفوز في مجرد لعبة؟

لقد تمّ تمييع صورة البطل الأسطوري الكلاسيكي مُنقذ الشعب من خطر يمسّ حياتهم ووجودهم في مجرد صورة ذلك اللاعب أو الفريق البطل الفائز في مباراة كروية (تُوصف أحيانا بالمصيرية) مع أنها مجرد لعبة في آخر الأمر.

لماذا لا تنزع الجماهير عندنا نحو غريزة الحب وتتعلق بالحياة، وتستمتع بالكرة لمجرد أنها لعبة، تحوّل تلك الطاقة المشحونة إلى ابداع وفنّ ضمن نزعة الايروس، وليس العكس، لأن الشحناء والغضب والنزعة التدميرية التي تُبرزها هذه الجماهير، سواء عندنا أو عند المغاربة عموما أو المصريين أو أي جماهير أخرى تعشق الكرة وتستميت في الدفاع عنها وتشجيعها، كلها تعبير عن/ أو تمثيل للحرب... 

إنّها مجرد لعبة، وعلى حدّ قول الفيلسوف الألماني هانز جورج غادمير: لماذا نحن جدّيون أثناء اللعب؟ مع أننا نعلم في الأخير أنها مجرد لعبة؟