مصطفى حفيظ

نحن اليوم في أواخر العام 2021، أيّ بعبارة أدقّ لقد مرّت 21 سنة على بداية الالفية الثالثة، طبعا هي فترة زمنية تعيشها البشرية بشكل مختلف عن فترات سابقة لهذه الألفية، من حيث أننا أمام زخم تكنولوجي قوّي، وتطور رهيب وصلت إليه البشرية بعد ثورة الاتصال الرقمية، وفيما يخصنا نحن هنا في بلداننا المغاربية، في شمال افريقيا، نطرح هذا السؤال: كيف تفكر الأجيال الجديدة المولودة بالأخص في عصر ما بعد الألفية هذا، أو بالأحرى الجيل الذي ولد بين أواخر التسعينيات وبداية الألفينات، الجيل المسمّى "جيل –زاد"؟ هل يملك هذا الجيل رؤية واضحة لمفاهيم أو مسائل مثل: الهوّية، الثقافة، المواطنة، اللغة؟ أم هي مفاهيم لا تعني شيئا بالنسبة لجيل يعيش في عالم مادي رقمي افتراضي سريع التطور؟

ما يلاحظ اليوم، ويستدعي امعان البحث فيه، من جانب السوسيولوجيا والفلسفة والانثروبولوجيا وحتى علم النفس، هو هذا الجيل الذي ذكرنا، جيل ما بعد الألفية، يسمّى أيضا بالجيل "زاد" أو (Generation Z)، ويشتمل على الأشخاص المولودين بين نهاية فترة تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحالي (الألفية الثالثة)، تكون أعمارهم الآن بين 20 إلى 25 سنة تقريبا، إذن، هؤلاء سواء في العالم ككل أو عندنا في بلداننا المغاربية، تختلف طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للوطن، للغة، للمواطنة، للثقافة وللهوّية أيضا.

ربما قد لا تعني كلمة هوّية لشاب في بداية العشرين شيئا مقارنة مع شاب على مشارف الأربعين، لأنّ جيل ما بعد الألفية قد يرى بأنّه يمتلك هوّية عالمية وليست محلية، فقط، كما أنّ المقدّس بالنسبة للأجيال السابقة لهذا الجيل، وهي أجيال الألفية، وما قبل الألفية، إلى غاية جيل الاستقلال وما قبل استقلال بلداننا المغاربية (تونس، ليبيا، الجزائر، المغرب) عن الاستعمار، يختلف عن المقدّس بالنسبة للجيل "زاد"، لأنّ مثلا شاب عشريني جزائري اليوم، لو تسأله عن ثورة نوفمبر 1954 في الجزائر، قد لا يجيبك سوى بما قرأه عنها في كتب التاريخ المدرسية، لكّنه قد يبدي أقل اهتمام أو ربما لا يبدي أيّ اهتمام بالتاريخ نهائيا، لأنه يرى الأشياء من زاوية مختلفة، وهلمّ جرا.

وسواء مسائل ثقافية أو هوياتية أو لغوية، فهو جيل مختلف لسبب بسيط وهو أنّه، ربما لحسن حظه أو لسوء حظه، لا ندري، ولد في زمن يعيش ثورة اتصالية تواصلية شديدة التطور والتغيّر، عالم رقمي غيّر كل المفاهيم واختزلها في: فكرة التواصل الافتراضي، التسوق الافتراضي، التعليم الافتراضي، العمل الافتراضي، الثقافة الافتراضية، عالم المشاهدة، والترفيه والصورة وألعاب الفيديو، عالم تغيّرت فيه نظرة الانسان للزمان والمكان.

لذلك يصعب اليوم اقناع شباب جيل ما بعد الألفية بفكرة الوطنية والمواطنة مثلا، فعندما يصعد رئيس حزب سياسي في الجزائر مثلا على منصّة قاعة خصصت للحملة الانتخابية، ويبدأ في القاء خطاب سياسي حماسي مشبع بالعبارات الوطنية الرنانة، وشعارات مثل نوفمبر، الشهداء، الإسلام، العروبة، الأمازيغية، التاريخ والأبطال والمستقبل وما إلى ذلك من كلمات قد تفهمها أجيال ولدت بين الستينات وبداية التسعينات، لكن قد لا تعني شيئا بالنسبة لجيل ولد أواخر التسعينات وبداية الألفية الجديدة.

هل يحسّ هذا الجيل بالخوف من الإرهاب مثلا مثلما أحسّ جيل الألفية (المولود بين 1981 و1996)؟ الأكيد لا، لأنّه لم يعشّ تلك السنوات من عمر الجزائر، سنوات (1991 إلى سنوات بداية الألفينات)، وهل يعرف هذا الجيل في تونس مثلا، ماذا تعني حرية وتحرر وتنوير في زمن بورقيبة؟ أو حكم البوليس في زمن زين العابدين بن علي؟ أو زمن القذافي وجنون العظمة؟ أو المهدي بن بركة المعارض للنظام الملكي في المغرب، طبعا من ينتمون لهذا الجيل الذي نتحدث عنه اليوم، قد لا يرون بأن القذّافي كان دكتاتورا مثلما وصفه معارضوه، أو أن بن علي كان فاسدا، أو أنّ الإسلاميين في الجزائر كانوا مخطئين، لذلك مثلا: بعد ما عرف بالحراك الشعبي في الجزائر، صارّ البعض من هذا الجيل يصدّق كل ما يقوله أحد معارضي النظام الحاكم في الجزائر وهو محمد العربي زيتوت عن العسكريين في البلاد، لدرجة أنه أظهر الإسلاميين بصورة نظيفة بينما ألصق صفة الإرهاب بمؤسسة الجيش.

إذن، مفاهيم الوطن والوطنية والمواطنة بالنسبة لهذا الجيل قد تختلف، لأنّ القيّم اختلفت، والآن، مع هذه الثورة الرقمية التي لا لغة لها سوى مسحة الاصبع فوق شاشة الهاتف الذكي، تحوّل الشباب من هذا الجيل، إلى مؤمنين بقيّم ثقافة عالمية، ولغة كونية، أو بالأحرى، صاروا يؤمنون بأنهم ينتمون إلى العالم وليس إلى وطن معين، فمثلا، حبه لكرة القدم جعلته يحس بأنه ينتمي لكل جمهور فريق عالمي مثل برشلونة، فهو فريق اسباني، لكن جمهوره من كل بلدان العالم تقريبا، ونلاحظ بأن الجيل الذي نتحدث عنه يعشق كرة القدم الاسبانية أكثر من حفظه للنشيد الوطني لبلاده، ورأينا كيف يدافع البعض عن فريقه المفضّل إذا التقى بمناصر لفريق خص الذي هو مثلا ريال مدريد، من نفس البلد. وأيضا، استعمال اللغة، فلقد أضحت اللغة الإنجليزية مثلا، اليوم، ذات أهمية أكثر من اللغات المحلية، لأن أي شاب من بلداننا، سواء مغربي، أو تونسي، أو ليبي أو جزائري، يتواصل مع أيّ كان عبر هذا الفضاء الافتراضي، يعني، قد يستعمل أسهل لغة تواصل كي يتحدث عبر فيسبوك أو سناب شات، أو وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى كي يعبر عن أفكاره.

إنّ هذا الجيل، الذي تغيّر بالنسبة له مفهوم الزمن، والوطن، واللغة والثقافة، قد يبدو لنا جيلا ضائعا، تائها، وهجينا دون هوّية ولا ارتباط بالثقافة المحلية وحب الوطن أو حسّ المواطنة، صحيح أنّ القيم تغيّرت، وسبب ذلك هو تغير نمط الحياة وانفتاح الناس على الثقافة العالمية، فمثلا، الحب والصداقة والكره والعداوة مفاهيم عرفت تغيّرا بتغيّر أنماط الحياة وتسارع ثورة الاتصال الرقمية، أصبح الحب ممكنا عبر الفضاء الافتراضي، والصداقة أصبحت عالمية ولا تقترن الآن فقط بالمكان أو بالمحيط الضيّق الذي يعيش فيه الأفراد والجماعات، حتى الكره أصبح افتراضيا الآن، لذلك يصعب تصنيف أو توصيف جيل "زاد" اليوم، لأنّه جيل يعيش في زمن كسر الأنماط التقليدية في كل العالم وليس أوطاننا فحسب.

قلنا فيما سبق بأنّ الألفية الثالثة هي عصر الثورة الرقمية، أي عصر الانترنت والهاتف الذكي وألعاب الفيديو الذكية، وعصر الصورة والمشاهدة، كل هذا له آثاره على جيل الألفينات في بلداننا المغاربية، لكنه جيل المنعرج أو هذا التحوّل الحاصل منذ عشرين سنة في الاتصال، التحول من التماثلي إلى الرقمي، جيل مفتوح على كل الاحتمالات، لا يؤمن بمقولات التاريخ والهوية والوطن، ولا تقنعه سرديات الثورة والنضال والبطولات، والأمة والمصير المشترك، والمعايير عنده مختلفة من حيث فكرة محلية الثقافة واللغة والانتماء العرقي والاثني، نقول إنّه جيل يصعب السيطرة عليه أو مراقبته، لأنه مرتبط على الدوام بشاشة الحاسوب أو الهاتف، متواصل على الدوام بالعالم الافتراضي، وهو عالم ينتج عن ادمانه سلوكيات جديدة، غريبة عن الحياة النمطية للعائلة، المحيط، الوطن.

على الباحثين في بلداننا (المغاربية) اليوم في مجالات علم النفس، السوسيولوجيا، الانثروبولوجيا، بالأخص، أن يدرسوا سلوك أبناء هذا الجيل، ويبحثوا في حالاته النفسية وهو أمام شاشة الهاتف الذكي، ويحاولوا تفسير حالات الحب والكره الافتراضي، والاغتراب والانزواء والخرَسْ العام (ظاهرة الخرس الاجتماعي، أي الانشغال عن الآخرين الهواتف الذكية وهم معنا، أو ما يعرف بالإنجليزية بكلمة: Phubbing) لدى مراهقي هذا الجيل مثلا، وأن يجدوا في هذا الجيل مادة بحثية هامة لبحث أسباب انسلاخه عن الأطر الاجتماعية ومفاهيم العائلة والجماعة وخروجه عن الأنماط السائدة، واهتمامه بالثقافة الاستهلاكية، فنحن نحتاج اليوم، لمعرفة كيف يفكّر هذا الجيل، وما هيّ إيجابيات تفكيره وما هي سلبياته، لأنّه يصعب فهمه في عالم سريع التطور والتغيّر.

قد لا ترى الحكومات عندنا خطورة في هذا الجيل اليوم، لكن، مع استمرار تدفق الكم الهائل من المعلومات، والصوّر، والمفاهيم الجديدة، وتقارب الثقافات وانصهار الثقافات المحلية داخل فكرة المواطنة العالمية، قد يكبر هذا الجيل بعد سنوات وهو غير مؤمن بفكرة الدولة والأمة واللغة الوطنية أو الرسمية، أو ثقافة الأجداد، أو التاريخ والثورة وقدسيتهما، وقد لا يؤمن بمفهوم العائلة مثلما هو الآن، أيّ قد تتغير رؤيته للزواج كمؤسسة مقدّسة لضمان استمرار النوع الإنساني، لأنّ الأنترنت اليوم تعجّ بأفكار مثل: حقوق المثليين، زواج من نفس الجنس، فكرة المعاشرة دون زواج، ...إلخ، وغيرها من المفاهيم الجديدة التي تؤثّر في شباب اليوم.

إذن، هل تستطيع السلطّ اليوم، كل السلّط (الحكومة، العائلة، السلطة الدينية، العسكرية ...) أن تتحكم أو أن تراقب أو أن توجّه جيل ما بعد الألفية هذا؟