القبيلة في عموم ليبيا لم تعد ذلك الاطار الاجتماعي الذي يضبط الاداء المجتمعي ولم تعد تلك المظلة الاجتماعية التي تساهم في ايجاد حاله تعاضدية تعاونية والتي تطورت خلال العقود الاخيرة الى تاسيس تنظيمي تمثل في ايجاد مايسمى بالصناديق الاجتماعية والمساهمة في اعانة الحوادث الاجتماعية والخطايا والكوراث المترتبة عن اخطاء الافراد، بل انها استطاعت ان تعالج كثير من المشاكل والنزاعات في ظل ضعف مؤسسات الدولة واضمحلالها.

كل هذه الاسهامات الايجابية اصبحت تتراجع واتجهت القبيلة الى ممارسة ادوار كان من المفترض ان تديرها مؤسسات الدولة، لذا تحولت مضطرة الى ادراة توزيع السيولة المالية بسبب فشل ادارات المصارف العامة ومصرف ليبيا المركزي،  وتنظيم طوابير توزيع الوقود بسبب الفشل الاداري في توفيره وادارة القوائم للحصول على غاز الطهي وغيرها من الخدمات، لذا فقد أخرجت القبيلة من فضائها الاجتماعي إطارا للتواصل والتراحم إلى فضاءٍ سياسيٍّ قائم على الاستقطاب والتناحر، فتوسع نشاط القبيلة الى ممارسة الدور السياسي من خلال ترشيح المنتخبين على الصعيد المحلي وعلى الصعيد الوطني، "تطبيقا لشعار عّد ارجالك وارد الميه" وها نحن على ابواب استحقاق انتخابي كبير يرسم مستقبل ليبيا ويحدد هويتها،  بدات القبيلة تحشد طاقاتها وامكانياتها، ليس بهدف افراز الكفاءات لبناء ليبيا وتعويض الليبيين عن السنين العجاف بل تحشد طاقاتها على اسس ومعايير اخرى ذات مصالح اجتماعية ضيقة ولربما تكون بذاتها ضحية عن طريق اختراق اولادها وكلنا يذكر جيدا خدعة "المستقلين" في الانتخابات الماضية، ترى كم مستقلا سيكون في الانتخابات القادمة والاحزاب المسجلة بليبيا حتى الان تجاوزت في عددها ال 200  !!!

كيف لمرشح قبيلة ان يؤسس لبناء دولة او يساهم في تطويرها وكيف له ان يوائم بين مصلحة الجماعة ومصلحة الوطن، بل دخلت القبيلة في نفق المحاصصة المقيتة على المواقع، وليس ببعيد، فقد شاهدنا احد اعضاء مجلس نواب ليبيا يتحدث في جلسة علنية على الهواء ويخاطب رئيس الحكومة ويلومه بانه لم يكن موفقا في اختيار الوزراء بشكل عادل، وانه قد سبب له احراجا امام قبيلته لانه لم يتم اختيار وزير او حتي وكيل وزارة من قبيلته. !!!

كذلك الحال فان ممارسة سلوك الجهوية والمناطقية هي ممارسة لنفس السلوك التعصبي القبلي، لكنه اكثر ضرراً وأوسع نطاقًا وامتدادا لانها قد تتجاوز حدود الجغرافيا وتتجاهل معالم التاريخ وتتبنى (الايديولوجية المغتربة) و التي ظهرت ملامحها واضحة في تحالفات بعض القوى المتعسكرة بغرب البلاد في ممارسة عمليات التهجير وحرق البيوت والممتلكات واستباحت الارزاق وتقاسم املاك الفارين ظلماً او اتهاماً !!!

فالجهوية والمناطقية عَزز نفوذها "المال الفاسد"  الذي لعب دورا سلبيًا في اختيار بعض قيادات الدولة المركزية وفي اختيار بعض عمداء البلديات المحلية والمؤسسات السيادية، حيث تشكلت جماعات المصالح التي استقوت بقادة السلاح لتظهر طبقة رأسمالية جديدة تنامت على حساب مُقدرات البسطاء والفقراء وموظفي القطاع العام، من خلال سطوة الحُذاق على مفاصل الدولة واستغلال موارد الدولة الشرعية منها وغير الشرعية التي تبداء بتهريب الوقود ولا تنتهي بتجارة السلع والبشر!!! 

تراجعت فكرة المواطنة بتجسيد مبداء المغالبة على حساب تطبيق مبداء المحاسبة، وأصبحت الانتقائية هي السلوك والغنيمة هي الحق المكتسب، اتسعت الهوة بين المركز والمحيط واصبح ابناء جنوب الوطن ووسطه لا بواكي لهم، فهم خارج معادلة الموازنة والاعتبار، لانهم لا يمتلكون مراكز المال ولا يكتنزون مخازن السلاح ، ولم تمتد اياديهم الى الغريب، الامر الذى دفع بالمغلوبين البسطاء للاستخدام النفط والماء وهي "سابقة في ذاتها" جاءت اضطراراً كورقة ضغط لتنفيذ احكام العدل والقضاء وتطبيق القانون الانساني اتجاه السجناء!!! 

المجتمع الليبي اليوم بحاجة الى مشروع مصالحة يُبني على اساس المصارحة والاعتراف بالمظالم وجبر الضرر واعادة الثقة بين المتخاصمين والانطلاق نحو التحديث الذي سيعمل على إحداث حالة من التوائم والاندماج بين النظام المدني والاجتماعي وايقاف هوة الاختلاف الآخذة وتيرتها في التزايد والانحراف!!! 

فالتصدّي للاستخدام السياسي الذي تلتحفه القبيلة او الكيان الجهوي او المكاني، لايعني استهدافا للمجتمع وأواصره وعاداته وتقاليده، بقدر ما هو حماية له، فالدولة فوق الجميع بادواتها وتفعيل القانون فهي اللاجم للظالم وهي نُصرتاً للمظلوم، ومن المهم أن تشارك القبيلة مؤسسات الدولة في بعض مسؤولياتها، مثل التحكيم وفض المنازعات، والتكافل الاجتماعيوان التموضع المناطقي المسلح لن يفضي الا الى حالة انتصارالانانية وهزيمة الوطن ولن يسهم في استعادة الدولة لدورها وسوف يؤخر مرحلة البناء والتقدم لسنيين، ولربما يدفع في اتجاة اعلان فشل الدولة وافلاسها، لذا فان بناء الدولة المدنية الحديثة يستوجب تناغم وتجانس هذه الكتل من قبائل ومناطق ومكونات ، لاسيما وان تأسيس كل المناطق والمدن في بداية الامر كان على نمط اجتماعي سوا عائلي اوقبلي وتوسع للعلاقات حسن الجوار، كما إن القبيلة كمكون من مكونات المجتمع المدني لن تكون إلا عاملاً مساعداً في ترسيخ النظام والقانون وبمعية رجال المدينة وشرائح المجتمع جميعا يمكن إنهاء حالات العنف والصراع ونشر المعرفة وترسيخ القيم المستنيرة وبعث روح الوطنية المهددة بالاندثار !!!

واخيرا فان هناك مشاهد دولية محزنة كثيرة حولنا ينبغي ان نستقي منها الموعظة والعَبر، لعل اليمن (السعيد) لم يعد كذلك، فقد اصبح المثال الأكثر بؤساً بمنطقتنا العربية، فالدولة اليمنية الحديثة الهشة المبنية على الاساس الجهوي والمناطقي والقبلي لم تصمد أمام استبداد الزعمات الجهوية والتدخل الاجنبي وظهورالعقائدية الحوثية، وتنامي الحرب الاهلية وتعدى وطمع دول الجوار!!! 

كما ان التغطية الاجتماعية (البشتونية) لتأطيروتأسيس الدولة الافغانية والتي استقطعت اكثر من عشرين عاما من عمر الدولة الافغانية،  افرزت لنا الحركة الطالبانية التي دفعت الشباب الافغاني الى ممارسة الانتحار الجماعي وفي مشهد درامي وهم يتشبثون بعجلات طائرات العم سام هربا من وطنا لم يعد فيه مكانا او املا في الحياة  !!!