حميد زناز 

يبدو تعبير "الاسلامو- يسارية " أو "الاسلاموغوشيزم" الفرنسي غريبا و متناقضا و لكن ان كان اللفظ جديدا فمضمونه قديم فقد بدأ مع جمال عبد الناصر و الضباط الاحرار حينما تحالفوا ، هم اليساريون العروبيون ، مع جماعة الاخوان المسلمين الاصولية سنة 1952 للإطاحة بالملكية في مصر. كما تحول الكثير من المناضلين اليساريين الى العمل الارهابي و اقتربوا من الاوساط الاسلاموية   ككارلوس  الذي اعتنق الاسلام  و راح ينادي بتشكيل جبهة اسلامو-ثورية ضد الامبريالية. و من جهة اخرى انضم إسلاميون إلى الحركات المناهضة للعولمة كطارق رمضان بهدف ما يسمونه ه بمعية اليسار الى اجتثاث الفكر الاستعماري و هي مطية لاتهام المجتمعات الاوربية بـــ "عنصرية ممنهجة "، مترسبة في مؤسسات الدولة. و يعمل هذا الاتجاه على شيطنة الرجل الغربي الابيض و امثلة "الآخر".  و هو ما مارسه "الائتلاف ضد الاسلاموفوبيا في فرنسا" ، تلك الجمعية التي كانت تمثل رأس حربة الاسلامو-يسارية قبل ان تحلها السلطات الفرنسية منذ اشهر.

جاءت   فكرة "التحالف بين اليسار المتطرف الملحد والراديكالية الدينية" وتحولت الى ايديولوجية عن طريق زعيم الحزب التروتسكي البريطاني كريس هارمان في عام 1994 عبر مقال مطول بعنوان "النبي والبروليتاريا" خلص فيه إلى أن اليسار قد ارتكب خطيئتين بخصوص الاسلاميين. الاولى كانت اعتبارهم كفاشيين لا يمكن مشاركتهم في شيء. و الثانية اعتبارهم كــــ "تقدميين" لا ينبغي انتقادهم. يجب ان نكون الى جانب الاسلاميين ضد الامبريالية و الدولة.و حيثما وجد الاسلاميون في المعارضة فقاعدة سلوكنا ينبغي ان تكون :  مع الاسلاميين أحيانا ، مع الدولة لا نكون أبدا. و يعترف هارمان أن الاسلاميين ليسوا حلفاءنا و لكن على اليسار ان يستفيد منهم و نبقى غير متفقين معهم  جذريا في مسائل كثيرة كاستعمال العنف و حقوق المرأة و حرية الضمير و الرأي .. و على عكس هذا الرأي المتحفظ نسبيا، سقط اليسار الفرنسي و على وجه الخصوص المتطرف منه في فخ الاسلاميين و اصبح مدافعا عنهم و حليفا لهم

لم يأت تعبير "الاسلامو- يسارية" في فرنسا من اليمين كما يتبادر إلى الاذهان بل جاء من اليسار حيث استعمله لأول مرة الكاتب بيار اندري تاغييف في بداية سنوات الــ 2000. و كان يقصد ذلك الانحراف الذي أدى ببعض جماعات اليسار المتطرف خصوصا الى دعم الاسلاميين باعتبارهم طليعة المسلمين المضطهدين في فرنسا حسب زعمهم. وبغض النظر عن الجدال الدائر حول المفهوم فهذا لا يمنع من الاعتراف بأنه يشير الى مشكل حقيقي هو تواطؤ مجموعات من اليسار المتطرف مع حركات اسلاموية متنوعة الاتجاهات.   و علاوة على نشاط الاسلامو- يساريين في المظاهرات و النشاطات الحزبية و النقابية ، فهم يظهرون جليا في الاعلام و الجامعات فيقدمون آراءهم على انها أخبار و يوجهون نتائج بحوثهم لتتلاءم مع ما يروجون له. 

خرجت الكلمة من شبه السرية وأصبحت متداولة في الاعلام وخاصة في الصحافة اليمينية واليمينة المتطرفة.  ووصلت اخيرا الى فم وزيرة التعليم العالي فريديرك فيدال التي طالبت بإجراء بحث علمي حول مدى تغلغل الإسلامويين اليساريين في الجامعات. و قد اثار ذلك ضجة كبرى في الاوساط الجامعية و الاعلامية و طالب باستقالتها اساتذة جامعيون في عريضة تحمل اسماء 23000  من الموقعين.   ومع ذلك لم تعد الكلمة على الرغم من استعمالها الواسع قادرة على الالمام بكل الانحرافات الايديولوجية – السياسية التي اصبحت موضة في فرنسا  و الآتية في اغلبها من  ثقافة   التهميش  او الاستيقاظ  "شانسل كولتور" أو "الوك" المسيطرتين اليوم في الجامعات الامريكية و التي تركز على نقد العنصرية العمودية و الافقية و إزاحة الاستعمار و غيرها  و فرضها كأسس جديدة لــ "الفكر المقبول سياسيا"  الذي يريدون فرضه على الجميع من أجل منع التطرق للقضايا التي لا تروق لهم

وقد ذهب بعض هؤلاء الاسلامو- يساريين الى الدفاع في كتاباتهم ليس عن الاسلاميين فحسب بل على الارهابيين انفسهم مثل ما هو شأن الكاتبة الفرنسية فيرجيني ديبانت التي دونت اعجابها وحبها للإرهابيين اللذين قتلا الطاقم الصحفي لأسبوعية شارلي ايبدو. اديوي بينال رئيس جريدة لوموند السابق و مدير موقع ميديا بارت هو نموذج الاسلامو- اليساري، فقد دافع حتى عن المغتصب طارق رمضان بعد ما اخفى ما كانت تصله من أخبار عن سقطاته الاخلاقية. أما فرنسوا بورغا الاستاذ السابق في معهد العلوم السياسية بأكس اونبروفونس والمدافع عن الأصوليين والاخوان خصوصا فيقول مشيدا بهم أننا "نطلق نعت الاسلاميين على الذين يقاومون اختلال النظام العالمي الوظيفي".

في مدينة ستراسبورغ التي أصبح يطلق عليها نعت ستراسبورستان، منحت البلدية الايكولوجية اليسارية الاسلاموية مبلغ مليوني ونصف اورو من اجل بناء اكبر مسجد تركي في اوروبا لمنظمة اسلامية تأتمر بأمر اردوغان، رفضت حتى الامضاء على ميثاق العيش المشترك في فرنسا هي ميلي غوروش والتي معناها بالتركية "الرؤية الوطنية"..التركية طبعا.  

يعمل الإسلامو- يساريون على ترويج بعض الافكار المناوئة للقيم الجمهورية و اللائكية و الرافضة للقيم الكونية الآتية من المذهب الانساني وعصر الانوار. و بما أنهم قلة وفي انتظار ازدياد عددهم بما يكفي للسيطرة يستعملون اليوم الشتم و التهديد وفي بعض الاحيان يلجؤون حتى الى القوة البدنية لإسكات من يخالفهم الرأي في الجامعات و مدارس التكوين.  

السلوك الاسلامو- يساري ليس وهما بل يقابله الملاحظ المدقق كل صباح في الجامعات و على صفحات الجرائد و القنوات التلفزيونية و الاذاعات بل في كل مكان اذ ترسخ منذ اكثر من 40 سنة في لاوعي الكثيرين و يمارسه دون وعي حتى اصحاب اليمين. هو سلوك متسامح بشكل مطلق و منهجي مع الآخر، الأجنبي المختلف جذريا، حتى و ان كان اسلاميا متطرفا. فالرجل الابيض شيطاني دائما أما الآخر و مهما كانت أفعاله فلا يمكن أن يكون سوى الضحية الملائكية لهذا الرجل الغربي الابيض. لما لا يجد اليسار ضحايا و مظلومين يصنعهم هو نفسه ليتسنى له الدفاع عنهم بهدف استغلال ذلك في صراعاته السياسية

ورغم العمليات الارهابية المتكاثرة في فرنسا منذ 10 سنوات، ينكر الاسلامو- يساريون وجود خطر إسلاموي أو أسلمة و لا يتحدثون سوى عن كذبة الاسلاموفوبيا، فكأن فرنسا بات بلد يضطهد فيه المسلمون. و قد شارك رئيس  حزب "فرنسا الأبية" جون لوك ميلنشون في مظاهرة نظمها الاخوان المسلمون بباريس ضد الاسلاموفوبيا في شهر نوفمبر 2019.  و ليس من الصدف ان نجد الارهابي الذي قتل موظفة الشرطة في رامبويي جمال غورشان   23 ابريل 2021  يشيد بكل من الرئيس التركي اردوغان  و جون لوك ميلنشون و يعيد نشر ما يقولان على الفيسبوك . و لم يعلق رئيس حزب فرنسا الابية اليساري المتطرف على الجريمة الاسلاموية سوى بكلمة مقتضبة جافة على تويتر لا إشارة فيها لا للإرهاب الاسلاموي ولا  للإسلام السياسي حيث  كتب أنها "جريمة مقززة" وصمت

و عموما فالاسلامو- يساريون في فرنسا هم نواب حزب "فرنسا الابية" و مناضلو "حزب مناهضة الرأسمالية الجديد" و "الحزب الشيوعي الفرنسي" و "حزب الخضر" و صحفيون و سياسيون و مثقفون يساريون .. و نجد حتى شخصيات من اليمين و من الوسط يحاولون استغلال الاسلاميون انتخابويا و لذلك يمكن أن يتغير مصطلح الاسلامو – يساريين الى " إسلامو – متأقلمين".