عبد الستار العايدي

في ظل الضغوط الدولية، الأوروبية والأمريكية خاصة، والضغوط الداخلية من بعض مكوّنات المشهد السياسي والمجتمع المدني، لازال رئيس الجمهورية يبحث عن طريق لتشكيل حكومة لتسيير البلاد بدل تكليف بعض الأشخاص بمهمات وزراء في ظل الوضع الاستثنائي. أكد رئيس الجمهورية قيس سعيّد أمام مسؤولين أثناء زيارته لمطار تونس قرطاج الدولي، الاثنين 16 أوت 2021، قائلا "انّ الحكومة ستتشكّل قريبا وفق نظام سياسي يعبّر عن إرادة الشعب التونسي، ومن يظنّ أنني سأعود إلى الوراء أو أنظّم حوارا فهو واهم، طرح يؤكد سيناريوهات وينفي أخرى. 

سيناريوهات متعددة مطروحة أمام سعيّد من بينها، أولا مواصلة التدابير الاستثنائية وحكم البلاد بمساعدة الجيش والأمن الوطنيين، وهذا السيناريو سينفي إستعداده حقّا لتشكيل حكومة جديدة من شأنها أن تدفع بالصراع بين الأحزاب السياسية مجدّدا إلى أفق مسدود وضبابية أكثر وأزمة إقتصادية ستتفاقم مخاطرها.

السيناريو الثاني، الخضوع لكل الضغوط الدولية والداخلية ومجرّد تراجعه وتسليمه مقاليد تسيير البلاد إلى البرلمان من جديد لتشكيل حكومة سينفي كل ما سبق من تدابير إستثنائية وسيعيد قيس سعيّد إلى المربّع الأول، صراعه مع حركة النهضة التي تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة بأكملها ومحاولاتها المتعددة تقزيم دوره وتأليب رؤساء الحكومات عليه.

السيناريو الثالث، تسليم تسيير جلّ وزارات الحكومة إلى الجيش الوطني، بإعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة،  حيث تعتبر المؤسسة العسكرية الحماية الأساسية الأولى التي يعتمد عليها قيس سعيد لاستكمال مدته الرئاسية ، مما سيكون بمثابة المأزق الدستوري أمام مفهوم مدنية الدولة، رغم إرتداء بعض القيادات العسكرية الزي المدني، وبالتالي سيقطع الطريق أمام أحد الأسس التي لم تتخلى عنها تونس منذ الاستقلال، لا لعسكرة أو لتدخل المؤسسة العسكرية في المجال السياسي .

بين مؤيّد لمواصلة التدابير الاستثنائية للقطع مع المنظومة السياسية السابقة التي أوصلت البلاد إلى مفترق أزمات سياسية وإقتصادية وإجتماعية ومنظومة الفساد التي كانت ترعى وتسعى للحفاظ على نفس الوضع القائم، ورافض لها بدعوى ما أسموه بـ"الإنقلاب على النظام الجمهوري" ومحاولة نسف التجربة الديمقراطية الناشئة والفريدة من نوعها في العالم العربي وعرقلة آخر مراحل الإنتقال الديمقراطي والعودة إلى مرحلة ما قبل الثورة والتأسيس مجددا للنظام الرئاسي وديكتاتورية الرأي الواحد، لجأ قيس سعيد إلى طريقة "الغموض والمفاجأة" بدل تحديد خارطة طريق واضحة، حتى يتجاوز المأزق السياسي الذي يعيشه بين مطالب الشعب العديدة ومطالب مكوّنات المشهد السياسي والمجتمع المدني، ذلك أن صورة تشكيل الحكومة الجديدة لازالت قيد المسودّات المتناثرة على طاولة رئاسة قصر قرطاج.

رفض كثير من الأحزاب الدخول تحت جناح قصر قرطاج لتشكيل الحكومة الجديدة بدعوى لا حكومة دون عودة البرلمان إلى سالف عهده وهذا ما رفضه قيس سعيد ضمنيا في أغلب خطبه سيؤيد التوجه نحو تشكيل حكومة من الكفاءات داخل الدولة أو ممن يشرفون على تسيير دواليب الدولة من الرتب الصغرى، حكومة من الممكن أن تصطدم بتواجد قيادات المؤسسة العسكرية التي تشرف على تأمين سير مؤسسات الدولة حتى لا تعود المنظومة القديمة للسيطرة على أجهزتها، ومأزق آخر سياسي وهو أن "حكومة الكفاءات" هو مطلب حركة النهضة "العدو السياسي" وذلك بعد عودة البرلمان وفكّ قرار التجميد عن رئيسه والنواب.

لازالت النخب السياسية التونسية والمجتمع الدولي في إنتظار الإعلان عن رئيس الحكومة الجديد وأعضاء حكومته، حيث يرى البعض أنه كان يفترض بقيس سعيّد أن يشكّل خلال 43 يوما الحكومة ويفصح عن خارطة الطريق ويزجّ في السجن كل من الإسلاميين الفاسدين أو رجال الأعمال الفاسدين وتطهير القضاء، فهو لم يفعل شيئا سوى تقديم بعض الوعود، إنتظارات يرى الشعب أنها لا فائدة منها ما دامت دواليب الدولة تسير بنفس الكفاءة أو ما يقاربها ومطالب بدحر الفساد والفاسدين تتحقق رغم الخطى البطيئة وعدم منهجية رئيس الجمهورية في تطبيق سياسة واضحة من شأنها أن تمنع قطعا مع المنظومة السابقة بأكملها وتؤسس لمرحلة جديدة. 

موافقة أغلب الشعب على تواصل التدابير الاستثنائية التي حققت نجاحا في بعض القطاعات، سيمنح ورقة خضراء لقيس سعيّد لتقديم حكومته الخاصة، أو "حكومة الرئيس"، التي ستعوّل أساسا على القطاعات الواسعة من الشعب المساندة لقيس سعيّد، حكومة من الممكن أن تفشل هي أيضا مثل سابقاتها في إقناع الرأي العام التونسي، شعبا ونخبا سياسية من جهة، وفشلها أيضا في إقناع المجتمع الدولي والدول المانحة لصندوق النقد الدولي من جهة أخرى إستنادا إلى قطع "حكومة الرئيس" مع المسار الدستوري في بعض جزئياته وعدم حاجتها لعودة البرلمان إلى سالف نشاطه. 

بين حكومة تريدها النخب السياسية والدول الأجنبية التي ستؤسس لعودة الإسلاميين إلى الحكم ولو من الباب الصغير، وبين حكومة يسعى قيس سعيّد لتكوينها على شاكلة أفكاره ورغباته حتى لا يخسر موقعه الحالي المتقدم داخل "رقعة الشطرنج" السياسية، وحتى لا تكون النهاية مثل ما حدث مع تنظيم الإخوان في مصر، لازالت حركة النهضة بمحاولاتها التخلّص من أعباءها ومشاكلها الداخلية وبعض قياداتها، تسعى لعدم منح قيس سعيد طريقا واضحا ودون "مطبّات" سياسية وإحراجه دوليا ووطنيا بأنها مستعدة للحوار والتفاوض من أجل "حكومة كفاءات" يصادق عليها البرلمان بعد عودته للعمل مع ضمانات للدول الكبرى بقطعها مع منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 .

هل سيرضى الجميع عن الحكومة الجديدة؟ وهل ستكون هي البديل الحقيقي عن فشل الحكومات السابقة، أم ستكون بمثابة "حصان طروادة" للرئيس قيس سعيد حتى يقنع الجميع أنه إحترم المسار الدستوري ووفى بوعوده؟ تساؤلات تطرح في إنتظار ما ستفرج عنه الأيام القادمة.