برهان هلاّك

تسعى الحكومة التونسية، التي تعيش مأزقا تمويليا جليّا للعيان، إلى الحصول على برنامج قرض تمويلي يقدّر بقرابة 4 مليارات من الدولارات على مدة حدّدت بثلاث سنوات، و ذلك في إطار إتفاق تعزّز الحكومة مجهوداتها الديبلوماسية لإبرامه مع صندوق النقد الدولي بهدف محاولة إنعاش إقتصاد يشكو علّات ضاعفت من حدتها مخلفات الوضع الصحي الطارئ الناجم عن جائحة فيروس كورونا و إستتباعات الإجراءات الإحترازية من إغلاق و حجر صحي شامل عطّل مرافق إنتاجية متعددة.

إلا أن هذا الإعلان عن نية التوجه للصندوق الدولي الذي صرّح به رئيس الحكومة هشام المشيشي في مقابلة أجراها مع وكالة رويترز، يوازيه إعلان عن إعتزام الحكومة تنفيذ حزمة إصلاحات إقترحتها هي بنفسها كبادرة حسن نية و تأكيد على جدية مساعي المعالجة و النهوض الإقتصادي. و يشير رئيس الحكومة التونسية إلى عمق الأزمة الإقتصادية و حيوية الحصول على هذا القرض بالنسبة لإقتصاد بلاد يعاني عجزا ماليا بلغ 11.5 بالمئة لأول مرة بنهاية 2020، و انكماشا اقتصاديا يقدّر بنسبة 8.8 بالمئة بسبب تداعيات أزمة كورونا، مؤكدا على ما أسماه " توحيدا لكافة الجهود التونسية لإستغلال هذه الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد و الإقتصاد."

و هو تصريح يبدو غامضا خاصة فيما يتعلق بماهية هذه " الإصلاحات " التي شبهها رئيس الحكومة بالدواء الذي يجب على المريض أن يتناوله " حتى لو لم يستسغ مذاقه ". من هذا المنطلق، يمكن التساؤل عن المعنى الحقيقي لهذه الإستعارة، فهل يكون المريض المتحدّث عنه هو إقتصاد البلاد الذي يمكن أن يتضرر أكثر من جراء تأخير " علاجه " الإصلاحي، أم أن المقصود هو الشعب التونسي الذي يستشرف المسكوت عنه في التصريح رفضه لهذا الدواء لشدة مرارة و سوء طعم يصعب معهما فعل الإبتلاع و الإقتناع بجدوى هذه الإصلاحات / العلاجات، و هو ما يبعث على التساؤل عن الكلفة الإجتماعية لهذه الإجراءات.

أما عن محتوى حزمة الإصلاحات فقد ظل غامضا و لم يعدُ أن يكون كلام إنشائيات تعوّد بها المتابعون للتصريحات الرسمية للحكومة التونسية سواء كانوا متابعين مختصين لا يجدون فيها ما يسمن أو يغني من جوع معرفي ضروري للتحليل و التعليق، أو تونسيين يظلون في عتمة لا يستطيعون معها إلى الفهم سبيلا. و قد كان أن إنتظرنا حتى تفرج وكالة رويترز عن وثيقة وصفتها بالحكومية تتناول تفصيلات هذه الإصلاحات، فقد أكدت الوكالة، بناء على ما وجد في الوثيقة، أن تونس تخطط لخفض كتلة الأجور إلى 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2022، في مقابل 17.4 بالمئة سنة 2020، و ذلك فيما يتعلق بمصاريف الدولة المرتفعة في نفقات و شؤون رواتب الوظيفة العمومية، حيث سيشجّع البرنامج الإصلاحي الموظفين العموميين على المغادرة طواعية في مقابل حصولهم على 25 بالمئة من الراتب أو الحصول على نصف الراتب مقابل أيام عمل أقل في الأسبوع. كما تتركز نظرة الحكومة للإنفاق على الرواتب في مجال المكافآت و المنح حيث قرّرت أنه من الضروري إعادة التفكير في نظام المكافآت بالتشاور مع النقابات والاتحاد العام التونسي للشغل على وجه الخصوص، ووضع قاعدة لضبط الرواتب والمكافآت بما يأخذ في الاعتبار أداء النّمو والإنتاجية و تطور التضخم الذي اعتبرت الزيادات في الرواتب أحد أسبابه.

بالإضافة إلى الإنطلاق في برنامج الرفع التدريجي للدعم الذي سيشمل في مرحلة أولى المواد الغذائية، و في مرحلة ثانية، قطاع إستهلاك الكهرباء و الغاز، و ذلك في تدرج يفضي في نهاية المطاف إلى إلغاء الدعم نهائيا بحلول سنة 2024، مع تعهد بدعم مستلزمات الحياة لمن لهم حاجة إلى ذلك من ذوي الدخل المتوسط و المتدنّي و الفقراء، و هو ما أسماه رئيس الحكومة ترشيدا للدعم حتى يذهب إلى من يحتاجونه بالفعل. دون إغفال إيراد إشارات غير مفصلة في معرض الحديث عن إصلاح الشركات العامة التي تلعب دورا هامّا، من قبيل شركة الخطوط التونسية وغيرها من الشركات الوطنية في مختلف القطاعات الحيوية، و الإشارة إلى ضرورة إصلاح منظومة الضرائب و التأسيس لعدالة جبائية.

و تأمل الحكومة من خلال هذه الإجراءات تعبئة موارد إضافية سوف لن تكفيها لوحدها في ظل توقعات تشير إلى أن ميزانية تونس للعام 2021 سوف تشهد اقتراض 7.2 مليار دولار تشمل قروضا أجنبية بحوالي خمسة مليارات دولار، في حين تُقدّر دفعات الديون المستحقّة بنفس السنة بنحو 16 مليار دينار (أي ما يعادل 5.75 مليار دولار)، مسجلة بذلك ارتفاعا بنحو 5 مليار دينار مقارنة بإجمالي دفعات الديون المستحقة في 2020   (11 مليار دينار).

غير أن أماني الحكومة في مجالين إثنين قد لا تبدو واقعية

 *فيما يتعلق بالأمل في ألا تكون لهذه الإصلاحات كلفة إجتماعية بالغة، يبدو أن ما يجري الآن أصلا من غليان شعبي، نتيجة لقصور و " إنحياز للميسورين " في إقرار إجراءات حجر صحي جديد في البلاد إنطلق منذ يوم 10 ماي ليتواصل حتى يوم 16 ماي 2021، كفيل لوحده بإثبات أن أي إجراء تقشفي سوف لن يمر بالهدوء و القبول الذي يأمله رئيس الحكومة، و ذلك في ظل أرقام مفزعة عن تنامي نسب و أعداد الفقراء و اهتراء الطبقة المتوسطة التي طالما كانت بمثابة صمام أمان النظام الحاكم في تونس، و التي تجد نفسها المعني المباشر بإنعكاسات هذه الإصلاحات إذ تتكون بالأساس من الموظفين و أصحاب الرواتب الثابتة كمسمار في حائط كما دأب الإعتقاد الشعبي على النظر إلى الوظيفة " في أجهزة و إدارات الدولة ".

*  عقد الآمال على حقيقة أن الوعي بضرورة شن إصلاحات عاجلة إقترحتها حكومة التونسيين يعني موافقة آلية من قبل الأطراف و الشركاء الإجتماعيين من قبيل المنظمات النقابية ( الإتحاد العام التونسي للشغل ) و اتحادات الصناعة والتجارة و الفلاحين، حيث يمكن التأكيد على أن ما أشار إليه رئيس الحكومة بـ " بعض التفاصيل التي سيستمر النقاش حولها مع شركاء الحكومة ومن بينها آليات تنفيذ هذه المقترحات "، كما ورد في تقرير وكالة رويترز، قد يكون العامل الأهم لإسقاط أي تنفيذ و تطبيق لهذه الإجراءات لوعي هذه الأطراف بإنعكاساتها الخطيرة على منظوريها بإختلاف مواقعهم من نظم الإنتاج و التبادل.

و يشير الأستاذ نجيب البكوشي الباحث التونسي في الفلسفة السياسية، في تدوينة له نشرها بصفحته على الفيسبوك أن استتباعات البرامج التمويلية التي تستلزم إجراءات تقشفية (عادة ما يتم تسميتها " إصلاحات هيكلية ") دائما ما تكون كارثية، إذ يقول: " تأمّلوا في ما حدث بالأرجنتين في ديسمبر 2001 نتيجة تطبيقها لسبع برامج تقشفيّة مملاة من طرف صندوق النقد الدولي، في ظرف ثلاثة سنوات فقط بين 1998 و2001، ممّا جعل 57 ٪ من الأرجنتينيين يعيشون تحت خطّ الفقر، و إرتفاع نسبة التضخّم المالي إلى مستويات قياسيّة، أدّى بالدولة إلى حالة الإفلاس، أنظروا كذلك إلى ما حدث باليونان آخر مخابر صندوق النقد والبنك الدوليين رغم أنّها تنتمي لمنظومة اليورو."

و تجدر الإشارة إلى أن بعض الملاحظين قد أكّدوا على أن وزير المالية التونسي قد يكون بصدد مغالطة صندوق النقد الدولي إذ يقول أن من ضمانات القرض أن تونس ستحقّق نسبة نمو تقدر بـ 10%، في حين لم تتجاوز توقعات الصندوق بنمو أغلب الاقتصاديات الناجحة نسبة 6% التي إعتبرها سقف النمو، و و يُفهمُ من ذلك اتّهام غير مباشر من قبل الصندوق لوزير المالية التونسي بالمغالطة و عدم الجدية، في حين تشير ملاحظات أخرى  إلى فشل الوفد التونسي في محادثات واشنطن المنعقدة للنقاش مع الصندوق حول البرنامج التمويليو يعني هذا قصور حزمة الإصلاحات التي أقرتها الحكومة في تطبيب إقتصاد يعاني أسوأ أزمة عرفها منذ إستقلال البلاد سنة 1956، و هو ما سيعود بالوبال على الوضع الإجتماعي الموتور أصلا و المرشح للإنفجار في قادم الأيام.