عبد الستار العايدي

في إنتظار إنطلاق حملة الاستفتاء الأحد القادم 3 يوليو 2022 على مشروع الدستور الجديد في خضم مقاطعة سياسية من أغلب الأحزاب الممثلة في البرلمان المنحل وغياب العديد من المنظمات الوطنية بإستثناء الاتحاد العام التونسي للشغل تواجه مسودّة الدستور الجديد من خلال القراءات الأولى انتقادات شديدة من قبل معظم مكونات المشهد السياسي وأساتذة القانون الدستوري وقطاع كبير من المجتمع المدني، انتقادات أغلبها تتجه نحو ترسيخ قراءة واحدة وهو أن الدستور الجديد قد تم صياغته حسب ما تبتغيه رؤية قيس سعيّد للنظام السياسي الجديد وشكل النظام العام للدولة مستقبلا.  

توطئة هذا الدستور طويلة مقارنة بما جاء في دستور 2014 أو بالنسبة للدستور نفسه، توطئة تم التأكيد فيها على الفصل بين الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية رغم إنكار هذا ضمن فصول الدستور وإعتبارها سلطات كما هو متعارف عليه، تأريخ لا فائدة منه ضمن هذا النص الطويل إلا مزيد التذكير بأن هذا الدستور هو العودة بالتجربة الدستورية التونسية إلى مسارها الصحيح بعد إنحرافها خلال العشرية الماضية، ليعقب هذا النص الفصل الأول الذي ينص على أن الدولة دينها الاسلام الذي تم تقزيمه وإحالة بقيّته إلى الفصل الخامس بالتنصيص على أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية ،وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الاسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية" مما سيفتح الباب أمام التأويل الديني خاصة بعد تغييب صفة مدنية الدولة، وعوض أن يكون هذا الفصل حاسما لهذه المسألة فتح مرّة أخرى باب الجدل الفكري والمجتمعي الذي من الممكن أن يكون عقيما.

بعد التأكيد على صلاحيات رئيس الجمهورية المعتادة أضاف القسم الأول من هذا الدستور ضمن باب السلطة التنفيذية ضرورة أن يكون الرئيس مسلما ليعتبره بعض المتابعين للشأن السياسي أن هذا الفصل كان "إقصائيا" ضد التونسيين غير المسلمين ويتعارض مع مبادئ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص ومبادئ الجمهورية، يأتي الفصل 110 ليفتح الباب الخلفي لصلاحيات أكبر لصالح رئيس الدولة خاصة بعد أن ضمن هذا الدستور عدم محاسبته أثناء توليه المنصب أو تخليه عنه، صورة قد تؤسس لعودة النظام الرئاسي قبل الثورة ولكن أكثر ديكتاتورية من ذي قبل وديمقراطية مشوهة خاصة بعد سحب بعض من الصلاحيات التشريعية لمجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم وتمكين رئيس الجمهورية من عرض أي مشروع قانون يتعلق بتنظيم السلط العمومية أو يرمي إلى المصادقة على معاهدة يمكن أن يكون لها تأثير على سير المؤسسات على الاستفتاء دون الحاجة للمرور عبر البرلمان.

صراع سعيّد المتواصل ولو بشكل خفي مع السلطة التشريعية تأكّد من خلال سحب وظيفة تعويض رئيس الدولة بعد وفاته أو غير ذلك من رئيس البرلمان وتعيين رئيس المحكمة الدستورية حسب هذا الدستور ولكن مع صلاحيات لا تكاد تذكر، إلى جانب مشاركة وظائف البرلمان مع المجلس الوطني للجهات والأقاليم ووضع فصول أخرى لتقييد حصانة نواب الشعب وسلطاتهم داخل البرلمان وخارجه، على الضفة الأخرى وضمن الصراع بين قيس سعيّد والسلطة القضائية تم التنصيص منذ البداية ومن خلال عنوان الباب على ان القضاء وظيفة وليس سلطة مستقلة بذاتها وتبرير ذلك بأن كلمة السلطة قد تم إلغاءها تماما وتعويضها بوظائف، كما منح سعيّد نفسه صلاحية تسمية القضاة بترشيح من المجلس الأعلى للقضاء، صراع دام فترة طويلة كان الحسم فيه ضمن هذا الدستور الجديد لصالح السلطة التنفيذية، الدستور الذي ترك أبوابا كثيرة عبر هذه الفصول لممارسة رئيس الدولة صلاحيات السلطات الأخرى غير وظيفته التنفيذية.   

وبخصوص المسألتين الاقتصادية والاجتماعية، ذهبت جهود لجنتها الاستشارية أدراج الرياح خاصة بعد أن أخلف الصادق بلعيد رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية من اجل جمهورية جديدة كلامه بأن هناك بابا كاملا ضمن هذا الدستور مخصص للمسألة الاقتصادية استنادا إلى أهميتها لوضع الدولة الحالي الذي يشهد أزمات متكررة، اللجان ورئيس الجمهورية أكتفوا بوضع المسألتين الاقتصادية والاجتماعية ضمن باب الحقوق والحريات، فصول لا تختلف كثيرا عن سابقاتها من الفصول التي أتت بها الدساتير السابقة، حتى باب الحقوق والحريات، أعظم فصوله ستكون عديمة الجدوى إذا لم تصاحبها وتدعمها قوانين وقرارات حتى تتخذ الشكل الاجباري والإلزامي للحكومات المتعاقبة خاصة وأن أي متفحص للفصل الخامس والخمسين قد ألمح إلى انه من الممكن   التراجع عن حماية مجمل الحقوق والحريات أو بعضها وذلك حسب ما جاء به بأنه "لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور الاّ بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها الدفاع الوطني أو الأمن العام أو الصحة العمومية أو حماية حقوق الغير أو الآداب العامة"، هذه الاستثناءات هي إحدى الفخاخ وخاصة عند ربط الحقوق والحريات بالمسألة القانونية، خاصة وأن عبارة "حسب او وفق القانون" كانت في السابق بالنسبة لنظامي بورقيبة وبن علي وحتى بعد الثورة طريقا معبّدا للتضييق على حرية الرأي والتعبير وعدم تحقيق كل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

الرؤية الواحدة لمشروع دستور الجمهورية الجديدة قد تركت ثغرات يراها البعض من المتابعين للشأن الدستوري نقاط التأسيس لوجوده رغم رفض أو إنتقاد الأغلبية له، فمثلا الفصل مائة وتسعة وثلاثين ينصّ على أن الدستور يدخل حيّز التنفيذ ابتداء من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء يعني ذلك أن سعيّد قد تعمّد سحب عبارتي نعم أو لا من باقي النص وبالتالي فإن الفصل يسمح بمرور المشروع حتى لو كانت الكلمة الأخيرة هي رفضه من طرف الشعب، بالإضافة إلى أن هذا الدستور وحسب فصوله لا يؤسس للديمومة حسب رأي البعض بل أن ديمومته مرتبطة ببقاء قيس سعيد في السلط، من جهة أخرى هناك غياب التنصيص على عدد من الهيئات الدستورية، إلا هيئة الانتخابات، هذه الهيئات التي قد يراها قيس سعيّد أنها سبيل لسحب بعض من صلاحياته وتفريق لقوة السلطة التنفيذية .

بين من يرى ان أمر الدستور قد حسم وآخر يأمل أن يعاد تنقيحه قبل طرحه كنسخة نهائية وحتمية تبقى كل الاحتمالات واردة في رضوخ قيس سعيّد وإعادة النظر في هذه المسودة خاصة بعد موافقة اتحاد الشغل على المشاركة في الاستفتاء ومن الممكن ان يكون الرقم الصعب في ترجيح كفة الدستور أو رفضه.