حميد زناز 

كيف لا يجب الدفاع عن العلمانية في وقت مازال يعيش بيننا من يحاول فرض دولة دينية. بل من يريد استمرار ذلك الجمع الهجين بين الدولة الدينية و العلمانية في نفس الوقت. و هو حال أغلب البلدان العربية و الشمال إفريقية. فلا هي دول دينية كاملة و لا هي علمانية كاملة. و هو وضع غريب تفرضه مادة في دساتيرها، ان وجدت أصلا، و التي تنص على أن الاسلام دين الدولة. و هو قميص عثمان الذي يرفعه الاسلاميون في وجه الديمقراطيين المطالبين بأدنى انفتاح ديمقراطي عقلاني. و في الحقيقة بقاء الديمقراطيين في حالة دفاع دائما هو الذي شجع هجومات الاسلاميين و اصبحوا ينادون بإقامة الدولة الدينية الاسلامية في وضح النهار  و يعلنون صراحة لا تلميحا أن الشريعة سابقة على الديمقراطية و أدواتها و ليس الاسلاميين العلنيين فحسب بل حتى ائمة المساجد رعاة الاصولية الرسمية. 

 و في الحقيقة الاسلاميون اوفياء لرؤيتهم اللاعقلانية للعالم.  فهم لا يعترفون بالدولة الديمقراطية الحديثة التي يشرّع فيها الشعب لنفسه عن طريق نوابه دون إملاءات مافوق واقعية مسبقة بينما يبقى الديمقراطيون يلمحون و يرتبكون في توصيف الدولة التي يرغبون في إرسائها و مصدر القانون الذي سيحكمها و الذي هو وضعي حتما و مصدره العقل دائما. ترتبط العقلانية ارتباطا وثيقا بالعلمانية فلا يمكن فصلهما. فالأولى تضع العالم بين يدي الإنسان ليعمل فيه عقله، وعن طريق التفكير العقلاني المنطقي يتحرر الإنسان من الأفكار المسبقة وينعتق من هيمنة كل الانتماءات المذهبية والدوغمائية. عن طريق ممارسة العقلانية يمكن الوصول إلى نسبية مصطلحي الحقيقة والموضوعية، كما تفتح العقلانية آفاق المعرفة والوعي ثم يتم تعقل الواقع الموضوعي وتغيراته الدائمة والتأقلم معه.

وانطلاقا من هذا الفهم للواقع المتحرك، يسن البشر القوانين التي تتماشى مع هذا الواقع لضمان مصالحهم وترسيخ السلم والعدل. وتلك هي العلمانية المرتبطة دوما بالتجربة الإنسانية. هي تجاوز للنظرة الغيبية للعالم وفقا لتلازمها مع العقلانية. العلمانية ليست فصل السماء عن الأرض، وإنما ابعاد للدين عن السياسة، والذي هو سن القوانين بحثا عن مصلحة المواطنين والتعايش بين مختلف الأديان، واعتبار كل تلك الأديان والعقائد متساوية وعلى مسافة واحدة من الدولة. فالعلمانية ليست رأيا وإنما الحرية في أن يكون لكل الناس رأي.

ودون هذا الفصل والتسليم بأن الدين مسألة شخصية تخص الفرد وحده ولا تعنى بمعتقدات غيره، لا يمكن بناء دولة ديمقراطية حديثة. فلا علمانية دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون علمانية. وكل من يبتغي ديمقراطية دون التأكيد على ضرورة فصل الدين عن الدولة، فهو كمن يحرث في الماء. لا يمكن إذن فصل العلمانية عن المشروع الديمقراطي في بلداننا ، وضرورة جعل السلطة تستمد شرعيتها من الشعب وليس من الإيمان أو الدين. في الفضاء الديمقراطي يجب أن يتحول المؤمنون إلى مواطنين. وليس كما تحاول أن تفعل الأحزاب الإسلامية، فبدل تحرير السياسة من الدين والدين من السياسة تحاول تحويل أغلبية دينية إلى أغلبية سياسية. وتضرب الديمقراطية في مقتل.

يتمحور الصراع بين دعاة الدولة الدينية والديمقراطيين في الإشكالية التالية: يحاول الإسلاميون تحويل المواطن إلى مؤمن، بينما يحاول الديمقراطيون تحويل المؤمن إلى مواطن. في الحالة الثانية سيصبح المؤمن مواطنا وتضمن كل حقوقه سواء كان مسلما أو يهوديا أو مسيحيا أو بوذيا. أما في الحالة الأولى ولنفرض أن يتحول أغلبية المواطنين إلى مؤمنين ويصوتون من أجل إقامة الدولة الإسلامية، فماذا سيكون مصير المسيحيين واليهود والبوذيين وغير المؤمنين؟

وإذا ما أرادت شعوبنا إقامة دولة ديمقراطية مستقبلا، فعليها أن تؤكد في دساتيرها  الفصل بين الدين والسياسة. وما لم يحسم الأمر دستوريا لصالح الدولة الديمقراطية العلمانية الحديثة، فلن تخرج شعوبنا  من الغموض القانوني وستسقط في الفخ الأصولي آجلا أم عاجلا.

لتفادى التشويهات الكثيرة التي تتعرض لها العلمانية في البلدان الاسلامية  و خاصة تلك الصورة المزيفة التي يقدمها الاخوان المسلمون عنها بتقديمها كأنها الغول الذي يتربّص بالإسلام والمسلمين، ينبغي على الديمقراطيين تبنيها دون خوف من تهمة التكفير او التغريب و تبيان ضرورتها و التأكيد على تلازمها مع الديمقراطية و شرح أنها ليست معادية للدين بل لا تعتمد عليه في سن القوانين بل تعتمد على العقل لتحقيق المصلحة العامة. على العلمانيين ان لا يملوا من ترديد ان العلمانية  ليست تلحيدا للمجتمع كما يدعي الإخوان ولا هي إقصاء ولا معاداة للدين الإسلامي أو غيره بل بالعكس هي التي تضمن فردية الإيمان – أو عدم الإيمان- وحميميته. هي نمط تفكير سياسي واجتماعي متناسب مع شروط العصر الذي نعيش فيه. نظام العلمانية قادر على ضمان المواطنة المتكافئة والمساواة وحرية المعتقد وحقوق الإنسان وذلك لسبب بسيط، وهو ممارسة الدولة ومؤسساتها للحياد الإيجابي بوقوفها على نفس المسافة من كل العقائد والفلسفات والأعراق والطوائف دون أن تعادي واحدة منها.

مَن مِن الإسلاميين يقبل اليوم أن تعود فرنسا العلمانية إلى الحكم الديني كما كان سائدا في القرون الوسطى، وتُلزم المسلمين الذين يعيشون على أراضيها باعتناق المسيحية؟ في النظام العلماني لا تفرض الدولة عقيدة على من يرفضها. فهل يقبل إخوان الغرب مثلا الذين يريدون العودة إلى الذمية وفرض الشريعة على أقباط مصر أن يتصرف معهم الغربيون بنفس الأسلوب؟

على الديمقراطيين أن يحاربوا اللائكوفوبيا، رهاب العلمانية المزمن الذي غرسه الاسلاميون و الاخوان على وجه الخصوص في عقول أغلبية الشباب العربي المسلم. و دون تجاوز هذا الخوف المرضي من العلمانية لا أمل في إقامة دولة عصرية في منطقتنا. لأسباب بسيكولوجية ثقافية معقدة وباثولوجية، يهاب الكثير من الكتاب مجابهة الأطروحة الغالبة الخاطئة القائلة بإمكانية اقامة دولة ديمقراطية بعيدا عن العلمانية. و في الحقيقة لا يمكن الوصول إلى دولة حديثة بسهولة قبل أن يتحول المسلمون الشموليون إلى أقلية.  كيف نعرف دولة ما ان كانت حديثة ام لا: فصل الدين عن الدولة بشكل مطلق، اعتماد القانون الوضعي، احترام الحريات الشخصية، المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.