في اللحظة التي يدافع فيها أحدنا عن رأي أو موقف أو قضية من قضايا الفن والأدب والإبداع عموماً… فلابد أن يكون هذا الرأي مبرهناً ومقنعاً بالنسبة له، ويصل إلى درجة الحقيقة التي لا تقل يقينية عن أية حقيقة أخرى، ما لم يكن مدلساً أو مرائياً. عندما نقول عن تقييم ما يتناول عمل أحد المبدعين، إن صاحب النقد يصدر عن رأي محايد، بصرف النظر عن وقوع صاحب النقد في منزلق الابتعاد عن الموضوعيّة، واللجوء إلى تفريغ ما في صدره من نفثات طائشة لا نريد تسميتها مبدئياً باسم آخر، عندما نفعل ذلك نكون شركاء منغمسين في خطيئة تشويه الحقيقة والإساءة إليها إساءة بليغة، والسقوط في مطبّ الخطأ أمر مقبول، لكن من غير المقبول التمادي في الخطأ، وعدم القيام بأية محاولة للخروج من حفرته العميقة، وبالمقابل هناك من يدّعي القدرة على ممارسة عملية النقد بعيداً عن العاطفة الجيّاشة، فهو كما يقول يغلب العقل عليها، ولا يسمح لها بتكدير صفو هذا العقل، أو بلوغه ذروة الصواب في طريق وصوله إلى الحقيقة وإجلاسها على السدة التي تليق بها. 

هذا الموضوع سيبقى موضوع خلاف إلى أمد طويل، وهو يشبه إلى حدّ ما ذلك الخلاف الذي ينشأ أحياناً على اسم تجاري، وهنا نملك القدر الكافي من الشجاعة لنقول إنّ وراء الأكمة ما وراءها، ونعني بالأكمة النيات الموجودة لدى البعض عن سابق إصرار وترصّد للإساءة لإبداع ما...! وتقديم هذا النتاج الفكريّ إلى الناس وكأنه لهو أو لغو، قلم حائر لا يعرف صاحبه ما هي الرسالة التي يريد إيصالها إلى الآخرين، وربّما تطوّرت الإساءة المتعمدة من ذلك الذي يحاول الخروج علينا بعباءة الناقد الخبير إلى طموح مقصود لتدمير المبدع نفسياً من خلال فتح نار الحقد لا النقد عليه، والسعي الحثيث لتصيب منه مقتلاً. وهذا الأسلوب الذي يرتدي ثوباً شفيفاً يفضح ما تحته، يذكرنا برفع آخرين أصواتهم بالاستمرار في حملة الهجوم على شخصيات كبيرة في دنيا الفكر والأدب، شخصيات حظيت باحترامنا وتقديرنا منذ كنّا على مقاعد الدراسة، وظلّ إبداعها مستقراً في ذاكرتنا كصفحة مضيئة من صفحات تراثنا الأدبي الذي نعتزّ به اعتزازاً كبيراً. 

وبناءً على ذلك أقول: إنّ الباحث النزيه في قضايا الأخلاق والفن والأدب (والعلوم الإنسانية عموماً) يعرف أن بحوثه تختلف اختلافاً جذرياً عن البحوث العلمية (بالمعنى المتداول للعلم)، والتي تنتهي باكتشاف القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية، كما تختلف عن البراهين الذهنية المجردة المعتمدة على الاستنتاج الصوري والرياضي، ويدرك أنه إنما يقدم رأياً شخصياً يحاول جهده أن يجعله مبرراً ومسوغاً ومقنعاً... لكن دون أن يصر على فرضه على الآخرين. والرأي الشخصي يقوم على الذوق والمزاج أكثر مما يقوم على التجربة الحسية أو البرهان الذهني المجرد، وهو أشبه بالانفعال الذي يتوهج في لحظة ما نتيجة ما لدى صاحبه من معطيات، وهذا الانفعال قد يستمر أو ينطفئ حسب ما يتوفر من معطيات جديدة.

وفي لحظات التوهج لا يخامر الباحث أي شك برأيه، لذلك ينبري للدفاع عنه بكل ما أوتي من قوة وحماسة، ويحشد الحجج والبراهين، أو ما يظن أنها كذلك، لإقناع الآخرين بوجاهته، دون أن ينسى المقولة المشهورة للإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب. ودون أن ينسى كذلك، أن رأيه مجرد رأي شخصي، بمعنى أنه ليس موضوعياً ولا حيادياً ولا مستقلاً عنه، لأنه لو كان موضوعياً ومستقلاً عن صاحبه لتحول إلى قانون عام يفرض نفسه على الجميع، وهذا ما لم يحدث، ولا يمكن أن يحدث، في الدراسات الإنسانية عموماً، وفي الدراسات الفنية خصوصاً...

فكلام الناقد، مثلاً، لا يشبه قوانين عالم الفيزياء ولا براهين عالم الرياضيات، ولا يشير إلى حقائق موضوعية، وهو ليس صحيحاً ولا خاطئاً... ولا صادقاً ولا كاذباً... إنه حكم قيمة فحسب، وحكم القيمة بطبيعته يدخل في باب أحب هذا وأكره هذا، وأميل إلى هذا وأنفر من هذا... دون أن يكون صاحب الحكم مطالباً بالبرهان على شيء، لأن الحب والكره قضية ذوق، والتنطع للبرهان في هذه المجالات ضرب من الهذيان والجنون، إذ لا مناقشة في الأذواق... وهذا ما يبرر تعدد الآراء في العمل الإبداعي الواحد بتعدد المتلقين، وأعني المتلقين المجتهدين وليس الكسالى أو المترددين، الذين فقدوا الثقة بقدراتهم الذاتية فاتخذوا لأنفسهم مرجعاً من النقاد يقلدونه، ومن طبيعة التقليد أنه يحرم صاحبه لذة الكشف والمبادرة والمغامرة.

مما سبق أستطيع أن أقول: إن الآراء النقدية وإن وصلت إلى درجة الحقيقة اليقينية عند صاحبها، إلا أنها لا تلزم إلا قائلها ومن يقلده، ومن الصلف المقيت أن يدعي ناقد، أياً كانت مكانته وشهرته، أنه المرجع الأعلى للنقد (الصحيح)، فإذا كان من حقه أن يحكم على الآخرين وفق معاييره الخاصة، وأن يصنف الإبداع والمبدعين في خانات من صنع هواه ومزاجه، مع الاستعداد لتحمل تبعات تصنيفه، لكن الذي ليس من حقه الادعاء بأن تصنيفه يرقى إلى مستوى القانون العام، الذي لا يخالفه إلا الجاهلون وغير المطلعين؟!