هان هلّاك

يثير الوثائقي الذي أنتجته مؤسّسة " صواب الرأي" الإعلامية مسألة صراع الأجنحة والكيفيّة التي تشكلت وفقها النواة الأقلية المهيمنة داخل حركة النهضة التونسية، والتي يقودها راشد الغنوشي منذ سبعينات القرن العشرين.

تطالع المتابع لهذا الوثائقي، ومنذ مستهلّ الفيلم، وجوه يجمع بينها قاسم مشترك كونها عائدة لقياديين بالحركة الإسلامية، و يفرّق شملها تواريخ الإنتماء لهذه الحركة؛ محمد بن سالم، القيادي ووزير الفلاحة التونسي السابق في حكومة الترويكا في سنوات 2012 و 2013، يعتبر من الوجوه الشابة التي برزت بالحركة بالأخص في مرحلة ما بعد 2011. ويليه في الظهور الإسلامي القديم الملتاع من ظلم ذوي القرابة الفكرية و العقدية، المحامي الإسلامي التونسي عبد الفتاح مورو، وهو أحد الآباء المؤسسين لحركة النهضة، سليلة حركة الإتجاه الإسلامي. و تتعدد الأسماء والوجوه كناية عن جريان مياه كثيرة تحت جسور الإسلام السياسي بتونس. فهذا صلاح الدين الجورشي الذي خيّر رفقة احميدة النيفر أن ينشقا عن الحركة رفضا لتماهٍ مع أدبيات وفقه الإخوان المسلمين المصريين باعتبارها مسقطة على السياق التونسي اسقاطا فجّا لا يستقيم، وليشكّلا سويّا ما يعرف باليسار الإسلامي عموما وما يصطلحان على تسميته بتيار الإسلاميين التقدميين.

وأولئك المرحوم حسن الغضباني وخميس الماجري في محاورات إعلامية استرجع خلالها الأول سعة اطلاعه على أدبيات الإخوان باللغات الثلات التي يتقنها مقارعا المرارة في صده لهجمات التخوين الفكري والعقدي التي تعرض لها في أواخر أيامه من إخوان الأمس. في ما يشير الثاني إلى مغالطة قيادة الحركة في بياناتها الإعلامية التي أكدت أنه قد خرج عن الحركة، و مشيرا إلى أنه تم طرده نظرا لامتلاكه رأيا يخالف أمير الحركة، راشد الغنوشي. ورغم إشارة مؤسسة " صواب الرأي " إلى أن إنتاج هذا الوثائقي كان لاحقا لـ 25 جويلية 2021، أي تاريخ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد للتدابير الإستثنائية التي أقرّها، فإن ما يفحصه الفيلم يعتبر مواصلة لتتبع التصدّع الذي أصاب القلعة الإسلاموية بتونس و الذي بان للعلن بشكل أكثر وضوح في ما لحق التاريخ الذي سلف ذكره.

تتهدّد الحركة أخطار الانقسامات الداخلية والاستقالات المتواترة، في حين يحاول رئيسها، الذي فقد الكثير من شعبيته داخلها، إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومنذ إستقالة حمادي الجبالي سنة 2013 على إثر حادثة إغتيال الشهدي شكري بلعيد، تزايدت الاستقالات في صفوف الحركة تعبيراً عن رفض نهجها التوافقي الجديد مع من كانت تعتبرهم شرا أعظم وخطرا على الديمقراطية، وانفراد قيادتها الحالية بأمور تسيير الحركة وتوزيع المناصب على بعض المقربين من الغنوشي، وهو ما تحدث عنه القيادي محمد بن سالم في مطلع الوثائقي في إشارة إلى تعيين صهر رئيس الحركة، رفيق عبد السلام، في "مناصب حسّاسة". وتؤكد المحاورات الواردة في الوثائقي حقيقة المطالبات المتكررة باستقالة هذه القيادة باعتبار أن " الغنوشي قد أخطأ وأنّه حان وقت التغيير"، وتعكس اعتراضا صارما من قبل هذه القيادات، والبقية ممّن لم تشملهم الحوارات الصحفية بالفيلم، على ما يعتبرونه تدميرا تمارسه القيادة على الحزب الذي أضحى في تقديرهم يعيش حالة من العزلة في ظل ضمور حضوره وثقله في المشهد السياسي التونسي.

يصوّر الوثائقيّ حجم الانقسامات الداخلية عبر رصد التناقض حد التنافر بين طغمة القيادة، أو الخط السائد بحسب عبارة الصحفي أحمد النظيف، بزعامة راشد الغنوشي ونجله معاذ وصهره رفيق عبد السلام، وبين الخط المعارض للقيادة التنفيذية والذي يطالب بمواقع أكبر داخل التنظيم و بالتداول على المراكز القيادية التي يسيطر عليها أنصار الغنوشي منذ عقود. هذا الانقسام التنظيمي قد أدى بالعشرات من القيادات التاريخية للحركة للاستقالة، على غرار رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي والقيادي عبد الحميد الجلاصي والأمين العام السابق زياد العذاري. كما كان لهذا الخلاف التنظيمي الأثر البالغ على الأوضاع التنظيمية للحركة إذ أفقدها عديد القطاعات الشعبية المناصرة لها والتي لطالما مثلت خزانا انتخابيا محوريا، حيث صار الغنوشي يمسك بزمام الأمور في الحركة بواسطة مجموعة صغيرة وبالاستناد على سيطرته على مصادر تمويل الحركة وعلاقاته وارتباطاته الخارجية

ينتفض العديد من هؤلاء القياديين إذ استفاقوا على وقع حقيقة مؤلمة مفادها أن الانتماء للحركة الإسلاموية بات يقوم الآن على أسس مصلحية ونفعية وليس على ثوابت عقائدية وأيديولوجية كما كان الأمر قبل عام 2011. وينتهي الفيلم بإشارة ذكية إلى أن المعارضة التي لطالما لم تخف راشد الغنوشي باعتبارها خارجية و متشرذمة و " علمانية حقودة " باتت الآن تقض مضجعه القيادي باعتبار مخاوف "الأب" من تمرد الأبناء الذين يحسّون بظلم ذوي القرابة الذي هو أشد مرارة و"هدما".