عبد الستار العايدي

في إطار التجاذبات السياسية المستمرة بين قصر قرطاج وقصر الطبقة العاملة، اتحاد الشغل،   والحوار الوطني الذي مات داخل بطن عقيم من الصراعات، يحاول قيس سعيد وحكومته مزيد حشر اتحاد الشغل ضمن أحد الأطراف الفاعلة التي بيدها الحلّ للمطالب الاجتماعية الحالية الملحّة وبيده طرف الورقة الذي ستختم بالموافقة من طرف صندوق النقد الدولي، ليأتي ردّ منظمة الشغّيلة كما هو متوقع بالتحفّظ على ما جاء في نص مطالب صندوق النقد الدولي، تحفّظ مبطّن يخفي رفضا سبق وأن تمّ الإعلان عنه قبل مدّة وجيزة على لسان أحد أعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل، هذا التحفّظ منح فسحة سياسية وجيزة لقيس سعيّد خاصة بعد النجاح الحالي الذي يعيشه في حربه ضد الفساد الذي ينخر الاقتصاد بمختلف قطاعاته.

"لا يمثل برنامجا اقتصاديا بل هو مجرّد حزمة من الإجراءات التقنية المحاسبتية التي لا تهدف إلى إصلاح الوضع الاقتصادي ولا تتضمن أيّة رؤية"، ذلك ملخّص تحفّظات الاتحاد العام التونسي للشغل على البرنامج الحكومي الذي قدّمته لصندوق النقد الدولي، وخاصة رفع الدعم وتجميد الانتدابات والأجور، مؤكّدا على "أن الحكومة لا تمتلك نظرة اقتصادية وهو ما يفسر العجز عن مواجهة الغلاء والتضخم والبطالة"، وهو مستند لازال اتحاد الشغل يصرّ عليه منذ تشكيل هذه الحكومة وعدم قبول قيس سعيّد بمبادرته للحوار الوطني، الكرة الثانية في مرمى قصر قرطاج تمسّك اتحاد الشغل بإصلاح المؤسسات العمومية حالة بحالة بتقديم تبريره أن الحكومة لم تفصح إلى حدّ الآن عن أي تصوّر للإصلاح مما يبرّر عدم رفضه الإضرابات المتتالية التي شهدتها تونس في الأيام القليلة الماضية وستشهد البعض منها في المستقبل القريب، مرافق الاعلام العمومي على سبيل المثال، والأساس الثالث لهذه التحفظات هو الضغط على السلطة التنفيذية بمصارحة الشعب بحقيقة الوضع، مما يزرع عدم اليقين لدى المتابعين للشأن السياسي والشعب عموما بأن الوضع القائم يعيش حالة أفظع مما عليه ضمن الصورة التي يتمّ تسويقها.

يؤكد قيس سعيّد  "على أن تستجيب الحلول التي سيتم اقتراحها لمطالب الشعب التونسي وألاّ يتمّ المساس بالدور الاجتماعي للدولة"، في إشارة لاتفاقية التمويل الجديدة مع صندوق النقد الدولي، اقتراحات حسب ما جاء على لسان أحد أعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل بأنها "حزمة فساد"، إتهام صريح لحكومة الرئيس بأنها لا تسعى جدّيا إلى وضع أسس الإصلاح الجذري بل هي مجرّد ذرّ رماد على العيون إلى حين إستكمال الاستحقاقات السياسية القادمة التي تفضي اصلا إلى نفس النهاية التي عهدتها تونس من نهايات لفترات الحكم السابقة، هذا التصريح هو أحد أسس موقف الامين العام لاتحاد الشغل نورالدين الطبوبي حيث أعلن "إذا أرادت الحكومة الجلوس على طاولة الحوار من أجل هذا الوطن وإصلاحات عادلة فمرحبا.. الاتحاد له مشروع للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية".

 دعوة صريحة لقيس سعيّد من اتحاد الشغل، باعتبار برنامج الاتحاد الإصلاحي الذي تم وضعه ومحاولة للضغط عليه لإعادة تنقيح خارطة طريقه السياسية والقبول بالحوار والتفاوض، حوار يجمع معظم الطيف السياسي ومكونات المجتمع المدني في إطار دولة القانون والإنصاف والعدل بمعنى عدم التفرّد بالموقف السياسي العام وعدم السيطرة على ديناميكية الدولة القائمة منذ عقود، وجهة نظر الاتحاد دفعت رئيسة الحكومة نجلاء بودن للقاء مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الأمن المدني والديمقراطية وحقوق الانسان لمزيد التأكيد أنه لم يتم التراجع عمّا ما أعلنه رئيس الدولة قيس سعيّد حول الحقوق والحريات والتجربة الديمقراطية، هذا المطلب الذي على أساسه يرتكز الدعم الأمريكي على طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

ولمحاولة الهروب من بقايا الضغط الذي يمارسه قصر قرطاج على اتحاد الشغل  يفصح الطبوبي منتقدا تكليف وزير الاقتصاد والتخطيط لجهات أجنبية، وكالة التعاون الدولي الألماني، بتمويل وإعداد مخطط للتنمية 2023-2025 إلى جانب عمل هذه الوكالة لإستراتيجية اقتصادية "تونس 2035 "، و"انه من غير المعقول تكليف جهات من الخارج باعداد رؤية البلاد للسنوات القادمة في الوقت الذي تعج فيه تونس بالكفاءات المعترف بها دوليا"، خاصة وحسب رأي الطبوبي "أن الشركة التي تم اختيارها عن طريق طلب عروض لإعداد البرنامج الاقتصادي 2023/2025 وإستراتيجية تونس 2035، ضبابية ويمتلكها شخصان هما ابعد ما يكون عن الكفاءة فضلا عن ما يحوم حول احدهما من شبهات"، هذا التصريح الذي يضرب بعضا من مواقف قيس سعيّد التي تؤكّد في كل مرة على السيادة الوطنية وعدم الموافقة على التدخّل الخارجي في سياسة الدولة الداخلية أو رسم تحديد بعض الخطوط العريضة، حرب على الفساد الداخلي والسماح للفساد الخارجي أن يجد له موطأ قدم له ، هذا التناقض وما سبقه من مبررات لموقف الاتحاد من سياسة قيس سعيد وحكومته ومطالب صندوق النقد الدولي قد تكون ورقة رابحة في المستقبل لإعادة خلط الأوراق وتوزيعها حسب ما تقتضيه خارطة الحوار الوطني الذي تدعو لها بعض الأطراف السياسية من وراء ستارة الاتحاد العام التونسي للشغل. 

ولكن التحذير الذي أفصحت عنه بعض الأوساط السياسية من أن عرقلة اتحاد للشغل للإصلاحات العاجلة لإنقاذ الاقتصاد والذي سيفضي به إلى غضب الشعب، قد تكون هذه الورقة أيضا من الورقات الرابحة بيد قيس سعيّد، ممّا سيكون مبرّرا له بمشروعية إقصاء الاتحاد من المشهد عموما ووضع كل ما يحدث من فشل في تحقيق رؤية رئيس الدولة على كاهله وأن المطالب الاجتماعية الذي يصرّ عليها في كل خطاب ليست عائقا وإنما الغاية هي عدم تحقيق خارطة قيس سعيد السياسية، هذه الأوساط السياسية تشير إلى أن الاتحاد لا يقدم أيّ بديل حقيقي وأن حديث الاتحاد عن البدائل هو مجرّد دعاية لكسب ثقة منتسبيه وفي نفس الوقت دعم دوره السياسي مستندة إلى مطالب إتحاد الشغل المادية خاصة في حين أن الدولة عاجزة عن خلاص الديون الخارجية وتوفير السيولة للاستمرار في تقديم الخدمات الضرورية.

خلاف تتّقد جذوته كل مرّة وتنطفأ، ولازال الوضع الإقتصادي على حاله منذ 25 جويلية 2021 ولازال الوضع الاجتماعي محتقنا لتطفو في كل مرة شرارته، في إنتظار ما ستفضي بنا جولات الصراع بين قصر قرطاج والاتحاد العام التونسي للشغل.