عبد الستار العايدي
بعد إتهامه النواب المجتمعين إفتراضيا إثر قراره بحلّ البرلمان بتهديدهم لأمن الدولة وسيادة مؤسساتها، يعلن قيس سعيّد أنه لا حوار يجمعه على الطاولة مع الأحزاب السياسية ، تلك الأحزاب السياسية التي كان لها مكان في السلطة طيلة عشر سنوات قبل إعلانه الإجراءات الاستثنائية، سواء كانت من المساندين له جزئيا أو المعارضين له كليا، قرار إنتفضت له كل مكونات المشهد السياسي في الداخل والشركاء الإستراتيجيين في الخارج، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، ليسحب بعدها قيس سعيّد البساط بدعوته كل المنظمات التونسية، إتحاد الشغل وغيرها، كشركاء حقيقيين لنجاح هذا الحوار بعيدا عن التجاذبات السياسية والمحاصصة حسب وجهة نظره.
لقاءات عديدة أعقبت تصريح قيس سعيّد بمنع الأحزاب السياسية التي حكمت طيلة السنوات الماضية جمعته بالاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة أرباب العمل والهيئة الوطنية للمحامين ورابطة حقوق الانسان والاتحاد الوطني للمرأة التونسية، هذه اللقاءات التي تخلّلها تفاؤل حذر بوضع أول لبنة أساس لإنقاذ المشهد السياسي الضبابي والمشتّت حاليا وحيرة حول ماهية الآليات التي سيتم على ضوئها إنجاح هذا الحوار الوطني، فإسراع قيس سعيّد إلى سحب بساط شعبية الأحزاب الممنوعة من الجلوس على طاولة الحوار داخل هذه المنظمات التي سبق ذكرها رافقه غياب واضح لأي ورقة أو مسودّة ترسم منهجية هذا الحوار وكيفية تطبيقه ونسب نجاحه أو فشله ومدى تأثيره على الاستحقاقات القادمة، الانتخابات التشريعية حيث الاقتراع على الأشخاص.
حوار مع المنظمات الفاعلة، إعتبره البعض حوار أعرج ومنقوص قد لا يفي بما يتطلبه المشهد السياسي من معالجة جذرية خاصة وأن جذوة التجاذبات قد خفتت قليلا ولكنها لم تنطفئ بين السلطة التنفيذية وهذه المنظمات بعد الوعود التي قدّمها قيس سعيد في إطار التقاطعات وعدم الاختلاف حول المبادئ العامة لإنقاذ البلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المترابطة، أيضا فالتقاطع بين هذه المنظمات والأحزاب السياسية قد يكون عائقا ولو صغيرا أمام هذا التقارب المرحلي، هذا العائق الذي تأكد على لسان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي بالقول أن "الاتحاد لن يتراجع عن فكرة تشريك المنظمات والأحزاب السياسية في أي حوار وطني" معلّلا وجهة نظره بأن ورقة الحوار الوطني التي طرحتها رئاسة الجمهورية تفتقد لمقاربات واتفاقات حول إدارة الحوار والمشاركين فيه ومن سيصوغه وتواريخ انطلاقه ونهايته ومحاوره، بالاضافة إلى موقف رئيس منظمة أرباب العمل الذي أكدّ تردّد موقف المنظمة من جدّية الحوار الوطني بعدم فهم ماهيته أو ماهية المشاركين فيه بعد إقصاء الفاسدين ومن لا ينضبط للقوانين.
"لا حوار مع من نهب مقدّرات الشعب ونكّل به أو حاول الانقلاب على الدولة وتفجيرها من الداخل"، فالحوار سيكون مع "الوطنيين الصادقين المخلصين"، كلمات إعتبرتها قيادات الأحزاب الممنوعة من الحوار مناورة لعزل الأحزاب السياسية وتمرير الأجندة الأحادية لقيس سعيّد، وهي مناورة حسب رأيهم كانت قد رسمت منذ أشهر لإقحام المنظمات الوطنية لإضفاء الشرعية على خارطة طريق رئيس الجمهورية، فيما وصفه آخرون بأنه حوار إقصائي وعلى مقاس أفكار قيس سعيّد الفردانية، فيما يأمل البعض أن لا تقبل المنظمات الوطنية بصيغة هذا الحوار. قد يكون سعيّد قد نجح في إقصاء الوجود الإخواني بحشر حركة النهضة وحزامها السياسي في زاوية تحت عنوان الخيانة والعمالة للخارج ولكن ستبقى ما يسمّى "العائلة الوطنية" أو الاحزاب السياسية التي تنفي إرتباطها بأي مشروع سياسي خارجي باعتبار ارتباطاتها بمكونات المجتمع المدني الجسر الأخير الذي من الممكن أن يقطع الطريق أمام تنفيذ النقاط المهمة لأجندة المشروع السياسي البديل.
قرار قيس سعيد بإقصاء "أحزاب العشرية السوداء" ما بعد الثورة إنتقدته بعض المنظمات مثل منظمة "أنا يقظ" الرقابية "خطوة صورية جديدة تتطابق مع الحوارات السابقة دعا إليها قصر قرطاج والتي أثبتت فشلها بسبب غياب التشاركية الفعلية والتمثيلية الحقيقية والاقتصار على دعوة المساندين والموالين والهياكل المهنيّة التقليديّة الّتي طالما كانت بوقا مدافعا عن مصالحها الضيّقة"، فيما دعت مجموعة "الأزمات الدولية"، الممولة من قبل الاتحاد الاوروبي وعدّة دول أخرى، قيس سعيّد إلى إطلاق حوار انسجاما مع الدعوات المتكررة من المجموعات السياسية والنقابات والجمعيات معتبرة أن ذلك سيمنح صوتاً أكبر لشرائح أوسع في المجتمع لوضع برنامج للإصلاحات الاقتصادية الواقعية والمصادقة عليه" مستندة بذلك إلى أن نجاح هذا الحوار من شأنه أن يرفع الضغط الاوروبي والامريكي عن كاهل رئيس الجمهورية ويدفع بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى ضفة النجاة إلى جانب فتح آفاق إقتصادية أخرى لتونس، مواقف منسجمة حول نهاية هذا القرار الذي من شأنه أن يزيد من تشتيت المشهد السياسي الداخلي والتأثير سلبيا على صورة الوضع الاقتصادي لتونس على المستوى الدولي وبعثرة الموقف الشعبي عموما حول جدوى هذا الحوار إستنادا إلى رأي قيس سعيّد أن الحوار الوطني سيطال كل فئات الشعب.
على الضفة المقابلة، تطالب الأحزاب المساندة لإجراءات قيس سعيّد وخارطته السياسية بالإعلان عن تركيبة من سيشرف على إدارة هذا الحوار داعية إلى القطع مع الحوارات الفوقية والتقليدية والتأسيس لحوار شعبي أفقي وعقد سلسلة لقاءات جهوية ووطنية مع القوى السياسية والمدنية والفعاليات الشعبية من أحزاب ومنظمات وشخصيات وطنية وأكاديميين وطلبة ومعطلين ومثقفين ورياضيين وإعلاميين وتجار وفلاحين وصناعيين، محاولة منها لرسم أولى النقاط المهمة لهذا الحوار الذي مازالت ورقته شبه بيضاء ولم يتم إلى حدّ اليوم الإفصاح رسميا عن فحواها.
لازال التساؤل قائما كيف لقيس سعيّد أن يضمن توازن طاولة الحوار الوطني العرجاء في ظل غياب أغلب مكونات الطيف السياسي عن كراسيها، ومن سيكون البديل من "الوطنيين الصادقين المخلصين"، الشعب أو النخبة السياسية التي تتشكل على ضوء السلطة الحاكمة الحالية، ليجلس إلى الطاولة ويمنع سقوطها مجدّدا في أحضان التجاذبات أو التكتيك السياسي المرحلي.