مصطفى حفيظ
لعل المشكل الوحيد الذي يعيق بناء علاقات قوية بين فرنسا والجزائر اليوم هو عقدة الذاكرة التي ما تزال تطارد فرنسا كلما حلّت ذكرى تاريخية ذات صلة بماضيها الاستعماري، وتدخل تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضدّ الجزائر وتاريخيها ضمن هذا السياق، لكن هل كانت هذه الهجمة التي شككت في تاريخ دولة ذات سيادة، مجرد حملة انتخابية مسبقة لماكرون لاستمالة أصوات الناخبين من اليمين المتطرف والحركى، أم أن فشله في ملف الذاكرة الاستعمارية الذي أعده المؤرخ بن جامين ستورا هو السبب؟ واليوم بدأت أصوات سياسيين ومثقفين تتعالى من داخل البرلمان الجزائري وخارجه لإعادة ملف تجريم الاستعمار إلى الواجهة، فهل سينجح الأمر؟ وهل ستتأثر العلاقات الفرنسية-الجزائرية مستقبلا خاصة في ظلّ تأثر الشراكة بين البلدين بعد تنويع الجزائر لشراكاتها والحضور القوي لتركيا والصين؟
يمكن وضع تصريحات ماكرون في سياق وضع متوتر تشهده العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ مدة، فمنذ الإعلان عن مشروع ملف الذاكرة الاستعمارية الذي أوكله الرئيس الفرنسي للمؤرخ بن جامين ستورا، ومعرفة محتواه بخصوص الرؤية الفرنسية لماضيها الاستعماري في الجزائر، ساد جو من الغضب من الجانب الجزائري، وكان الرئيس تبون قد أعلنها صراحة وقتها بالقول " إنّ ضمان علاقات طبيعية واستعادة فرنسا لمكانتها الاقتصادية في الجزائر مربوط بمدى جاهزيتها لمعالجة ملفات الذاكرة"، وهذا التصريح وحده كاف لتعزيز فرضية القلق الفرنسي من تراجع وجودها الاقتصادي في الجزائر كشريك أساسي وبروز الصين وتركيا كشريكين اقتصاديين، وهي سياسة جديدة انتهجتها الجزائر بعد سقوط منظومة الحكم التي كان يديرها الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، هذه السياسة قائمة على تنويع الشركاء الاقتصاديين وعدم الاقتصار على شريك واحد، في إشارة إلى فرنسا التي كانت الممول الرئيسي الأول للجزائر بالسلع.
إذن، كان ملف الذاكرة الاستعمارية الذي أراده ماكرون مزعجا للجزائر لدرجة عاقبته بطريقتها الخاصة، وهي تراجع فرنسا في علاقاتها الاقتصادية مع الجزائر، لأن الملف الذي أعده المؤرخ ستورا عالج الموضوع من مصلحة فرنسا فقط، وأغفل، بحسب ملاحظين ومحللين جزائريين، نقطة هامة وهي جرائم فرنسا في الجزائر، ويمكن من هذه النقطة، القول إنّ ما ساقه ماكرون من تصريحات مستفزة لتاريخ الجزائر وسيادتها، بوصفه للنظام الحاكم بأنه نظام سياسي عسكري وأن الجزائر لم تكن أمة موجودة قبل الاستعمار الفرنسي، كله يأتي في سياق فشله في هذا المشروع، وهو بناء علاقات فرنسية جزائرية ليس فيها تجريم لماضيها الاستعماري، أي، برأيه، ووفقا لمشروعه هذا، يقترح على الجزائر أن تقبل بصداقة وشراكة اقتصادية وفي كل المجالات بعيدا عن المطالبة بتعويضات عن جرائم فرنسا الاستعمارية في حق الشعب الجزائري طيلة 132 سنة، أو المطالبة بالاعتذار، لأن فرنسا ومنذ إعلانها عن قانون تمجيد الاستعمار الذي صادقت عليه "الجمعية الفرنسية" أي البرلمان الفرنسي في سنة 2005، كان صفعة أخرى في ملف الذاكرة بين البلدين، لأن ذلك كان إصرارا فرنسيا على رؤيتها لماضيها كماضٍ مشرف، في حين فشل البرلمان الجزائري وقتها في مناقشة أو حتى ادرج ملف مشروع قانون لتجريم الاستعمار على طاولة النقاش، لأن في تلك الفترة من حكم الرئيس بوتفليقة، لم يكن الوقت قد حان لمناقشة مثل تلك الملفات.
لكن اليوم الوضع مختلف مثلما هو ظاهر، لأن الرئيس الحالي تبون كان قد أبدى حزما وصرامة في التعامل مع هذا الملف، فهو الذي قال "إنّ الجزائر ليست محمية فرنسية" وقال أيضا إنها ستتعامل الند للند مع فرنسا وغيرها من الدول، ومن يحترمنا سنحترمه ..." إذن، هذه تصريحات رئيس دولة ذات سيادة، عبّر بها مباشرة ودون مواربة عن موقف بلاده الرسمي إزاء أي محاولة للتدخل في شؤونها الداخلية، أو التقليل من شأنها، ولعل التقليل من الحضور الفرنسي الاقتصادي بالأخص في الجزائر، هو ما ترجم أقوال تبون على أرض الواقع، فيكفي العودة إلى الخطوة التي قامت بها الجزائر بإعادة بعث اتفاقية شراكة مع تركيا كانت مجمدة منذ 20 سنة، والأمر يتعلق باتفاقية كان الرئيس بوتفليقة قد علّق العمل بها منذ عشرين سنة، ثم عاد الرئيس تبون من جديد ليعيد العمل بها، وهي اتفاقية بين الجزائر وتركيا تشمل نقل الركاب والبضائع، فضلا عن التعاون التقني في مجال بناء السفن وإصلاحها وتشييد موانئ، هي خطوة تكون قد أزعجت فرنسا، لأن فرنسا وقتها وخلال فترة حكم الرئيس بوتفليقة، كانت قد حازت على حصة الأسد في الشراكة الاقتصادية مع الجزائر، أما اليوم، فهي تشاهد مدى تقد الشريكين الصيني والتركي في شراكتهما مع الجزائر بينما تراجع حضورها، ولعل هذا سبب من الأسباب التي جعلت ماكرون يطلق مثل تلك التصريحات.
وطبعا، عندما يتعلق الأمر بفرنسا الاستعمارية، تترك الأحزاب السياسية خلافاتها جانبا وتقف صفا واحدا مع السلطة في موقفها، وهو التنديد بمحاولات التدخل في الشأن الجزائري أو التشكيك في تاريخها وسيادتها، لقد كانت تصريحات ماكرون مستفزة لدرجة أن حرّكت ملفا قديما كان قد طمس في عهدات الرئيس بوتفليقة لدواع سياسية ودبلوماسية متعلقة بالسياسية الخارجية التي كانت بيد الرئيس، وهو مشروع قانون تجريم الاستعمار ردا على قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي في الجزائر الذي صدر في 2005 في فرنسا من قبل الجمعية الفرنسية، وعندما يصرّح ماكرون بأن تاريخ الجزائر الرسمي أعيدت كتابته بالكامل ولا يستند إلى حقائق وأنه خطاب يقوم على كراهية فرنسا، فذلك يعني أنه طعن في وجود أمّة اسمها الجزائر، وهو أمر اعتبرته أحزاب سياسية ومنظمات وجمعيات خطيرا، ويستدعي الردّ، لذلك طفا ملف تجريم الاستعمار من جديد، حيث تعالت أصوات من داخل البرلمان تنادي بضرورة تفعيل هذا القانون ومحاسبة فرنسا على جرائما طيلة سنوات احتلال الجزائر، لكن هل تستجيب السلطة لهذه المطالب؟ لحد الساعة لم يصدر أي موقف رسمي بشأن هذا المطلب، باستثناء تصريحات وزير الخارجية لعمامرة الذي انتقد موقف ماكرون واعتبره يعاني من افلاس في الذاكرة.
ويمكن لملف كهذا، أيّ مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي، أن يؤثر فعلا على العلاقات الجزائرية الفرنسية، في حال تم تفعيله، لكن كيف سيتم تفعيله وهو لم يدرج في أجندة البرلمان كمشروع قانون يجب مناقشته والمصادقة عليه، هل سيتم اجهاض هذه المبادرة في المهد مثلما فعل أنصار الرئيس بوتفليقة وقتها، أم أن الظروف تختلف عن تلك الفترة، فقانون كهذا سيلزم فرنسا في حال صدوره، تقديم اعتذار رسمي عن جرائمها وتعويضات مالية لضحايا الاستعمار، وهذا ما لا تريده فرنسا، فمشروع بنجامين ستورا كان يرمي في محتواه إلى عدم تجريم الاستعمار أو تقديم اعتذار رسمي، أو إعادة كل الأرشيف الذي يتعلق بالفترة الاستعمارية من 1830 إلى 1962، وهناك عدة مسائل بقيت عالقة بين الدولتين في هذا الصدد، برغم ذهاب بعض المحللين للقول بأن بعض النقاط تعد جد حساسة ولم يحن وقتها بعد.
وبرغم عدم وضوح الرؤية فيما يخص الموقف الرسمي الجزائري من هذا الموضوع، أي ملف الذاكرة، خاصة بعد صدور تقرير ستورا ونشره ومعرفة كل ما تضمنه، لأنّ الرئيس الحالي كان وقتها في المستشفى يخضع للعلاج في ألمانيا، إلا أنّ الحكومة الجزائرية كانت قد علّقت على التقرير، على لسان ناطقها الرسمي وزير الاتصال عمار بلحيمر، الذي وصفه بغير الموضوعي لأنّه يساوي بين الضحية والجلاّد، وينكر الحقائق التاريخية والمطالب المشروعة للجزائر أولها اعتراف فرنسا بجرائمها خلال احتلالها للجزائر لمدة قرن و32 سنة، لكن ورغم هذه التصريحات، إلا أن الموقف الرسمي للرئيس تبون لم يصدر بعد، فهو وقت صدور التقرير كان في ألمانيا يخضع للعلاج، ومهما يكن، فالمرجّح هو أن تقدم الجزائر الرسمية على خطوات قد لا تكون في صالح فرنسا مستقبلا، خاصة في الجانب الاقتصادي، لأنّ ملف الذاكرة كما سبق وقلنا، كان سببا في تراجع الحضور الفرنسي اقتصاديا في الجزائر، فهل ستراجع الجزائر علاقاتها مع فرنسا على خلفية ملف الذاكرة؟