برهان هلاّك

يعيش التونسي منذ مدة ليست بالقصيرة -بل لعلّه طالما عاش- في بلد يسلبونه فيه قدره وسنوات عمره باسم الديموقراطية، ويستنزفون فيه ملكاته الذهنية في إطار " دمار المعنى"، بعبارة للفيلسوف الفرنسي جان بودريار

كما يعيش في ذات البلد الموبوء بالرداءة والجهل والظلامية والعنف والانحطاط والغلظة العدوانية المبرّرة والمسنودة سياسيا وحكوميا ومجتمعيا وقانونيا. ففي حال البرلمان التونسي بصيغته الحالية يكون الإسناد السياسي متجسّدا في عنف المكوّنين للحزام السياسي لحكومة هشام المشيسي من نواب حركة النهضة ومشتقاتها. وهم نواب كتلة ائتلاف الكرامة، التي ينتمي إليها النائبان الصحبي صمارة وسيف الدين مخلوف (رئيس الكتلة البرلمانية لإئتلاف الكرامة)  اللذان اعتديا على زميلتهما النائبة ورئيسة كتلة الحزب الدستوري الحرّ بالبرلمان عبير موسي أثناء جلسة برلمانية يوم الأربعاء 30 يونيو 2021. وليكون الإسناد الحكومي متمثلا في حضور مفارق و ساخر لوزيرة شؤون المرأة، التي لكأن مقتضيات السخرية القاتمة ارتأت لحضورها دورا في إذكاء روح اللاجدوى والسلبية، إذ كانت جالسة وشاهدة على تعنيف إمرأة ونعتها بشتى صنوف النعوت الصادرة عن ذكوريّة النواب السّامة ومفاخرتهم بصدفة بيولوجية بحتة أضافت لهم أعضاء تناسلية ذكرية، أضحت المحدد لكيفية تمثلهم للعالم 

أما عن الإسناد الاجتماعي فهو جلي للعيان. والحق يقال، إنه طالما كان كذلك. و يبرز من خلال تهليل المتعاطفين أو الموتورين المتحمسين لأدلوجات " أسود ائتلاف الكرامة " للطمات، التي تلقّاها خدّا النائبة عبير موسي.  وهي من كانت تزغرد بهما خلال حضورها في اجتماعات حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحلّ قبل ثورة يناير 2011، حسبما أشار إليه أحد الفائضين عن اللزوم في مقهى قصيّ بمدينتنا.

أما عن الإسناد القانوني لهذا الإعتداء فإن ما جرى يرقى لمصافّ الفضيحة القانونية باعتبار الجريمة الموصوفة والمتكاملة الأركان والموثّقة صوتا وصورة تجعل من تدخل النيابة العامة والقضاء في هذه المسألة غير محتاج إلى شكوى من أيّ جهة كانت، خاصة أن فعل المعتدين مثبت بالحجج والقرائن القانونية، التي تنزع عن النائبين امتياز الحصانة البرلمانية في القانون التونسي في مثل هذا الحال من التلبّس في ارتكاب الجرم. كما يُلاحظ توفير حماية للمعتدين من قبل رئاسة البرلمان التونسي ومكتبه. وهو ما حدث من قبل في قضية اعتداء نواب كتلة ائتلاف الكرامة، أي المشتبهين المعتادين بلغة السيناريست الأمريكي كريستوفر مكاري، على بعض نواب الكتلة الديمقراطية عن حزب التيار الديمقراطي في ديسمبر الماضي حينما أصدرت رئاسة البرلمان بيان تنديد بهذا العنف سرعان ما ألحقته ببيان ثان يلغي حق نواب الكتلة الديمقراطية حتى بحقهم في أن يُعترف لهم بتعرضهم للعنف. وليعبّر هذا البيان الثاني عن مساندته للمعتدين باعتبار أنهم كانوا أيضا "ضحايا لعنف" من اعتبرهم في البيان الأول ضحايا!  

إن عنف نواب كتلة ائتلاف الكرامة و ذكوريتهم السامة وميزوجينيتهم الشرقية الممزوجة بترسبات وعي قضيبي و تعال ذكوري غير مبرر لا يساوي إلّا الانحطاط. كما أن منظومة الأفكار، التي يصدرون عنها، لهي منظومة منحطّة تصدر عن أرواح مثقلة من شدة انحطاطها و انغماسها في كل ما هو غير أخلاقي ودنيء سياسيا وقيميّا. لذلك فإنه لا يمكن أن يتمثّل أي عاقل ما أتوه من فعل إلا باعتباره عارا على الوجود البشري المتحضر والواعي والمتنظم في أطر سياسية  إدارية وعلائقية سمتها الرقي. فحينما تبادل أفراد أول مجموعة بشرية الآراء بدل اللكمات واللطمات خُلقت الحضارة وتمّ تفويض الدولة لإدارة الشأن العام في إطار عقد اجتماعي. وحضرت البرلمانات باعتبارها السند التشريعي لمثل هذه الإدارة. و بعد ضربهم لزميلتهم في المجلس، فإنّ النائبين الصحبي صمارة وسيف الدين مخلوف ورفاقهما وكل من يساندهما أو يوافقهما في توجهاتهما العنيفة - وهم كثر- ليس من حقهم الانزعاج من أن يتمّ وسمهم بالمنحطّين، إذ لا يتعلق الأمر بشتيمة أو سباب وثلب، بل كل ما في الأمر أنّ العاقل غير الموتور هوويا وجندريّا عادة ما يكون وفيّا لعينيه اللتين تسدّدان جيدا إذ يسمّي الأشياء بمسمياتها: هم منحطّون وظلاميون ومعادون للمرأة، حيث يختزلونها في وعاء جنسي يستثير رغبات لم تبارح الدرجة صفر من الإشباع الغرائزي وهو ما تم التصعيد عنه عندما راح سيف الدين مخلوف يلوّح بحفنة من الأوراق النقدية في وجه النائبة عبير موسي في إشارة إلى عهر مفترض في سياق مبادلة المال بالجنس والرّقص المثير( وليته يعلم أن المكر الأنثوي في إطار أولى المهن في التاريخ، أي الإشتغال بالجنس، يكمن في سلب الرجل أهمّ ما يفاخر ويتعالى به ويزداد به سطوة وهو المال). فهي حيلة ذكية لا تبقي للذكورية أي هيمنة، فهو المحتاج لإشباع الرغبة بطريقة بهيمية تخضع لشروط اقتصادية تحددها المشتغلة بالجنس، لتتم العملية برمتها وفق شروطها. وفي ذلك ذكاء الجسد الأنثوي و مكره اللذيذ وإذلاله للغطرسة الذكورية الحمقاء، التي لا تعترف بشقاء مثيلات أولئك النساء في إسعاد بشرية منهكة. ولكنها لا تعترف بالجميل!

و ليس من باب المبالغة في شيء، أن نقول بأن البرلمان التونسي قد صار مؤسسة عنفيّة، لا من باب كونه جهازا من أجهزة الدولة، بل في إطار المشرّعين ونواب الشعب الذين يبرهنون عن منسوب من العنف والتفصّي من الالتزام الأخلاقي والقانوني. كيف لا وبعضهم تتعلّق به قضايا تحرّش وهرسلة جنسية والبعض الآخر يختزل المرأة في وعاء جنسي ومكمل بيولوجي للجندر الذكري الأرقى؟ هذا دون التغافل عن حقيقة تبييض الإرهاب والتستر على التهرب الضريبي، الذي أضحى ممارسوه ممثلين برلمانيا وصار لهم من يدافع على حقّهم في الفساد و الإفساد. ففي الديمقراطيات الفقيرة عادة ما تصبح الفعاليات الاقتصادية الوطنية حكرا على مجموعة من حيتان المال الفاسد المتهربة من الضرائب الساعية إلى مزيد تطبيع وجودها عبر مرج المال بالنفوذ باقتحام عالم السياسة حماية لمصالحها. لقد صار البرلمان نسخة رديئة الإخراج والسينوغرافيا لمسرحية دائرة الطباشير القوقازية لبرتولت بريشت، إذ نجد أنفسنا "كما البطل" و قد كرهنا تشريعاتهم العرجاء ولغتهم المترهلة وكرهنا لعدالتهم الباردة وكرهنا لعيونهم التي لم نقرأ فيها يوما غير نظرة الجلّاد وساطوره البارد!