مصطفى حفيظ

وصلنا اليوم لمرحلة أصبحت فيها السوشل ميديا أكبر قوة للتأثير في الجماهير، حتى أن مجرد أغنية عبر اليوتيوب يمكنها أن تروّج لمكان ما، أو لمعلم سياحي ما ليصبح مزارا سياحيا يجلب السياح إليه من داخل البلد وخارجه، في الجزائر، وبالضبط في وهران، وبالتزامن مع ألعاب البحر المتوسط التي احتضنتها هذه المدينة الجميلة بغرب الجزائر، تحوّل أول أستوديو "ديسكو مغرب" لتسجيل أغاني الراي، والذي انطلق منه الفنان العالمي "شاب خالد" إلى سماء العالمية، إلى معلم سياحي وقف عنده معظم ضيوف هذه التظاهرة الرياضية، وما يزال شباب الجزائر من كل الولايات يتوافدون عليه يوميا لمشاهدته والتقاط الصور أمامه كأنّه صرح تاريخي، بينما كان قبل شهر واحد مجرد استديو مهمل لا يلتفت إليه أحد.

فجأة أصبح الجميع يتحدث عن "ديسكو مغرب" كأنّه متحف تاريخي يؤرّخ لميلاد أغاني "الراي" الجزائري التي انطلقت من وهران بالغرب الجزائري، حتى أن المكان الواقع بوسط مدينة وهران أصبح قبلة للزوار من كل مكان بالجزائر، يلتقطون الصور أمام هذا الاستوديو الذي بقي شبه مهمل منذ التسعينيات، وهو المكان الذي انطلق منه الشاب خالد، مطرب الراي الذي حلّق اسمه في سماء العالمية وروّج لموسيقى الراي عالميا، هو والشاب حسني، والشاب نصرو، وفضيلة وصحراوي، كلهم أبناء وهران، جعلوا من الراي عالميا في فترة الثمانينات من القرن الماضي،وكان استديو التسجيل المسمى "ديسكو مغرب" الكائن مقره وسط مدينة وهران، هو الانطلاقة الحقيقية لموسيقى "الراي"، وبفضله ظهر الشاب خالد، ملك الراي كما يلقّب، عندما سجّل أول أغنية له في هذا الاستوديو الذي أسسه ملاكم سابق يقطن بوهران، كان مغرما بهذا النوع من الموسيقى، وأسس لهذا المحل الذي ساعد مطربين شباب على الظهور عندما أعطاهم فرصة تسجيل أغانيهم في الاستوديو خاصته، فظهر فنانون اشتهروا بين فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، منهم خالد، مامي، نصرو، صحراوي، فضيلة، قانة مغناوي، فرقة راينا راي، وآخرون، لكن أبرزهم الشاب حسني، الذي اغتالته يد الإرهاب في سنة 1994، واشتهر بالأغنية العاطفية، حتى أنه ملك قلوب الشباب والنساء بغنائه عن الحب والحزن واليتامى والنساء المطلقات و"المغبونات" الكئيبات والجميلات، غنى عن كل شيء، كان يذكر "ديسكو مغرب" في بداية تسجيل كل أغنية، حتى أن كل من استمع لغنائه كان يعرف ماذا تعنى كلمة "ديسكو مغرب"، لكن مع ازدهار سوق الكاسيت والتسجيلات والمنافسة الشرسة التي كانت في بداية التسعينات، تراجع صيت هذا الاستوديو، وبعد اغتيال الشاب "حسني" أغلق المحل أواخر التسعينات، كأنّ الراي حزن مع هذا المطرب العاطفي الذي ازداد شهرة بعد وفاته، واليوم، ومصادفة، وتزامنا مع تنظيم ألعاب البحر المتوسط التي احتضنتها مدينة وهران، عادت الحياة بفضل ديجي سنايك (Dj Snake) الفرنسي الأب والجزائري الأم، والمشهور عالميا، أعاده للحياة بمجرد أغنية فيديو لقيت رواجا عالميا.   

يقول ديجي سنايك، إنّه أراد بهذه الأغنية والفيديو كليب الذي سجّله في مناطق مختلفة من الجزائر، أن يكرّم هذا الاستوديو الذي له قيمة خاصة لديه، ويكرّم مطربي الراي الذين أثرّوا فيه أيضا، لذلك تشاهد في أول 30 ثانية من الفيديو، صاحب المحل بوعلام بن حوة، وهو يمشي بضع خطوات نحو الاستوديو، ثم يفتح الباب لتظهر صورة الشاب حسني معلقة في احدى الزوايا، المشهد أظهر بجلاء لافتة الأستوديو مكتوب عليها: "ديسكو مغرب"، لكن يمكن للمشاهد أن يرى هيئة المكان المهجور منذ سنوات، مع ذلك نجح هذا الديجي العالمي فجأة وبفيديو لا يتعدى خمسة دقائق، في نفض الغباء عن أول مصنع لإنتاج أغنية الراي بداية الثمانينات، في الفيديو أيضا، نشاهد مشاهد مختلفة من ولايات مختلفة، كلها تصوّر فلكلور شعبي من رقص وموسيقى وأعراس وحتى أماكن في ولايات مسيلة وقالمة وتلمسان والصحراء.

قبل شهر جوان، كان ديسكو مغرب مكانا مهجورا، بداخله آلاف الأقراص المضغوطة والكاسيت لمطربي الراي الذين تداولوا على تسجيل أغانيهم فيه، ترى فيه صور الشاب مامي، حسني، خالد، وغيرهم، وأكوام من أشرطة الكاسيت التي اشتهرت في سنوات الثمانينات والتسعينات قبل دخول التكنولوجيا الرقمية والانترنت إلى عالم الموسيقى، بداخل هذا المحل الذي نفض لتوّه غبار عشرين سنة منذ غلقه، توجد آلات تسجيل كانت تستعمل في تسجيل تلك الأغاني، واسطوانات بها صوّر الفنانين، باختصار، المحل من الداخل بحسب ما توفّر من صور، يمكن أن يتحوّل لمتحف فني يفتح بابه للزوار، لأنّه يخلّد للحظات تاريخية لهذا الفنّ الذي لقي رواجا عالميا ووصل حتى لليابان، حتى أنّ أحد اليابانيين الذين تعرّفوا لموسيقى الراي عن كثب في فرنسا، عاد إلى بلده اليابان وفتح محلا لبيع الأسطوانات الموسيقية، وتحول إلى مروج لموسيقى الراي في اليابان، لذلك، لا يمكن غضّ الطرف عن هذا الصيت العالمي للراي، لأنّ أي تراخي من جانب المسؤولين عن القطاع الثقافي سيساهم في ضياع هذا الإرث، علما أنّ هناك تنافس جزائري مغربي حول أصول هذا النوع من الموسيقى.

 والغريب في الأمر أن مجرد أغنية واحدة، استطاعت في دقائق أن تحقق نجاحا كاسحا وعالميا، بما أن صاحب الفيديو هو ديجي عالمي له أصول جزائرية من جهة أمّه، وكأنه أراد بهذا العمل تكريم بلد أمّه الجزائرية، وبحكم عشقه للجزائر ولفنها، أراد أن يكرّم فنّ "الراي" بالأخص، ثم فولكلورها ومعالمها السياحية، كما لو أنّه تفوّق على كل وسائل وزارة السياحة ووزارة الثقافة في الترويج لثقافة الجزائر ومقوماتها السياحية، هل المشكلة قلّة خبرة أو غياب روح المسؤولية في النهوض بقطاع سياحي بائس، لأن الجزائر فعلا بلد يزخر بآلاف الأماكن السياحية والثقافية التي يمكنها أن تكون وجهة وقبلة للسياح من مختلف دول العالم، لكن عجز هذه الوزارات عن الترويج لمقومات البلد الكبير، بينما نجح الكثير من صنّاع المحتوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي ك"يوتيوب وانستغرام" من اظهار الكثير من الأماكن الجميلة في الجزائر التي كان يجهلها حتى الجزائريون، فما بالك بالأجانب.

ما يجب قوله هو أنّ الديجي سنايك، برغم شهرته العالمية، إلا أنه واحد من صناع المحتوى عبر السوشل ميديا، لأنّه حطّم أرقاما قياسيا في نسب المشاهدة، فكليباته وصل أكثر من مليار مشاهدة، وكليب "ديسكو مغرب" وحده بلغ أكثر من 44 مليون مشاهدة في أقل من شهر على اطلاقه، ومعروف على هذا الديجي بأنّ له معجبين من كل أنحاء العالم، إذن، اليوم، بفضله تحوّل "ديسكو مغرب" إلى معلم سياحي عالمي، فطيلة أيام تظاهرة ألعاب البحر المتوسط، زاره آلاف الجزائريين الشباب من مختلف مناطق البلاد، وحتى ضيوف التظاهرة والمشاركين فيها من دول حوض المتوسط، كلهم شاهدو الفيديو وتملكهم الفضول لمشاهدة هذا المكان الذي تحوّل فجأة إلى مزار سياحي، يقف الجميع امامه لالتقاط الصوّر وعرضها في صفحاتهم عبر فيسبوك وانستغرام، والأكيد أنّ هذا الاستوديو سيجلب سياحا أجانب بعد مشاهدتهم للفيديو، فهل ستفتح الجزائر أبوابها للسياح وتخفف من إجراءات التأشيرة لتشجيع السياحة وفتح الباب لتدفق العملة الصعبة على البلاد؟ لأنّ ما ينقصنا في هذا البلد هو كيفية الترويج لما نملكه من معالم سياحية وثقافية في كل شبر من الجزائر، وهذه مهمة الوزارة سواء الثقافة أو السياحة، فهل ستتحركان؟