برهان هلّاك
نظرا لأن تجارب الانهيار الاقتصادي في التاريخ قد أدت إلى كم هائل من إعلانات الإفلاس في العديد من الدول، كانت وكالة رويترز قد أعدت تقريرا موجزا رصدت فيه علامات مشابهة تنطبق على عدة دول أصبحت في دائرة خطر الإفلاس. من المؤلم والمخيف أن نجد تونس من بين قائمة أكثر هذه الدولة المهددة عرضة لإفلاس عالي المخاطر؛ لاحظ تقرير رويترز أن العلامات التقليدية لأزمات الديون، والمتمثلة في انهيار العملات وفروقات في عوائد السندات تقدّر بـ 1000 نقطة أساس وتراجع في احتياطيات العملات الأجنبية هي إشارة إلى وجود عدد قياسي من الدول النامية التي تعاني الآن من مشاكل. وتدفع مثل هذه العوامل إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض والتضخم والديون، وبالتالي تذكية المخاوف من الانهيار الاقتصادي الشامل في الحالة التونسية.
في معرض حديث التقرير المذكور عن الوضع المالي المحفوف بالمخاطر لبعض البلدان في القارة الإفريقية، ثمة إشارة عن وجود مجموعة من الدول في إفريقيا سوف تستعين بصندوق النقد الدولي. بيد أن تونس تبدو واحدة من الدول الأكثر عرضة للخطر؛ في ظل عجز في الميزانية يقارب الـ 10%، وفي ظل واحدة من أعلى كتل أجور القطاع العام في كل دول العالم، تبرز مخاوف جدية من أن الحصول على دعم من صندوق النقد الدولي، أو على الأقل الالتزام به، قد يكون صعبا بسبب " مسعى الرئيس قيس سعيّد لتعزيز قبضته على السلطة" بحسب تقرير الوكالة. وكان مسؤول في البنك المركزي التونسي قد أعلن مطلع شهر جويلية الحالي أن وفدا من صندوق النقد الدولي سيزور تونس في الرابع من الشهر المذكور سلفا لبدء مفاوضات رسمية بخصوص برنامج قرض لمساعدة البلاد التي تمر بأزمة اقتصادية، وذلك بعد استكمال كل المحادثات الفنية بين صندوق النقد الدولي وتونس. لقد كانت هذه الزيارة بمثابة الخطوة الأخيرة قبل المصادقة على ملف تونس وعلى تمويل الخطة الإصلاحية التي يرجى منها أن تكون نهاية لمسار طويل من المفاوضات مع الصندوق حول إسناد قرض بنحو ملياري يورو مقابل التعهد بتنفيذ "إصلاحات جذرية ومؤلمة".
إن المخاطر في ظل الحصول على هكذا تمويلات سوف لن تكون إلا أكثر ارتفاعا في الحالة التونسية، وذلك نظرا للتحديات البنيوية الكبرى التي تواجه البلاد بالأخص عند التحقق عن كثب من الاختلالات العميقة في الاقتصاد الكلي، وفي ظل نسب نمو ضعيفة للغاية رغم الإمكانات المحترمة في بعض القطاعات. وتنضاف إلى مثل هذه الاختلالات البنيوية المحورية معدّلات البطالة جدّ المرتفعة بسبب ضعف إقدام الدولة التونسية على الاستثمار، وهو ما يخلق تفاوتات اجتماعية مفزعة؛ أشارت توقعات البنك الدولي إلى تنامي نسب الفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إذا ما استمر التضخم على نسقه الحثيث الحالي. وكشفت نفس التوقعات عن أن معدلات الفقر سترتفع بمقدار 2،2 نقطة مئوية في تونس كنتيجة لتعرضها المباشر للمخاطر الناجمة عن تذبذب الأسعار بالسوق العالمية في الفترة المقبلة من سنة 2022، وهو ما سيؤدي حتما إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والجهوية وعدم مساواة حادّ.
بالإضافة إلى ما سبق، يشير تقرير رويترز إلى ارتفاع الفروق في عوائد السندات التونسية (هو طلب المستثمرين لشراء الدين بدلا من السندات الأميركية) إلى أكثر من 2800 نقطة أساس. وتحتل تونس، إلى جانب أوكرانيا والسلفادور، إحدى المراكز الثلاثة الأولى في قائمة مؤسسة مورغان ستانلي للدول المتخلّفة عن السداد؛ عقّب على ذلك محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، بالقول بأن "الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أصبح حتميا". إلا أنّه من الصعب إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، على المستوى التقني على الأقل، وذلك باعتبار المخاطر العالية التي "يمتاز" بها الاقتصاد التونسي في هذه الفترة. وحتى إذا ما افترضنا جدلا أن تعامل الصندوق مع تونس سيكون بدرجة تسامح معينة تفاديا لدخول البلاد في غياهب الفوضى الاقتصادية والاجتماعية، فإن مهمة الوفد التونسي المفاوض ستكون جد عسيرة في ما يتعلق بمحاولة إقناع مسؤولي التفاوض بالصندوق بفاعلية البرنامج الاقتصادي الإصلاحي؛ يقول الأستاذ في كلية الاقتصاد والتصرف بتونس، عبد الرحمان اللاحقة، في تصريح لاندبندنت عربية أن الحكومة لم تقدّم مصادر تمويل الخطة الإصلاحية التي تتطلب، وفق ما يقوله، موارد مالية جد كبيرة لتنزيله على أرض الواقع بخاصة في نقطة إصلاح منظومة الدعم وإصلاح الشركات الحكومية التي قاربت خسائرها أربعة مليارات دولار.
وينضاف إلى جملة هذه المتاعب التمويلية مصاب انهيار العملة الأوروبية الحديث مقابل الدولار الأمريكي؛ تراجعت قيمة اليورو في مطلع الأسبوع لتبلغ دولاراً واحداً، في مستوى لم يسجل منذ طرح العملة الموحدة للتداول قبل عشرين عاماً، في ظل المخاطر الناجمة عن قطع إمدادات الغاز الروسي على الاقتصاد الأوروبي. سينتج عن هذا الارتفاع التاريخي في قيمة الدولار إزاء اليورو تداعيات على المعاملات الجارية لتونس، وهي تعاني أصلا من ارتفاع قياسي جديد للعجز التجاري الذي ناهز عتبة 12 مليار دينار (أي ما يعادل 4 مليارات دولار) خلال النصف الأول من العام الجاري.
كإرتداد سلبي أول، سيكلّف ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي المالية التونسية مبالغ باهظة من جهة ارتفاع تكلفة سداد الدين بأصله وخدمته. وباعتبار أن ميزانية الدولة التونسية لهذا العام تتطلع إلى تعبئة موارد مالية بقيمة 19 مليار دينار (6.20 مليار يورو)، منها 12 مليار دينار (4 مليارات دولار) من الأسواق الخارجية، فإن ذلك سيكون من الصعوبة بمكان في ظل ارتفاع نسب الفائدة نتيجة سمعة المالية التونسية السيئة في الأسواق المالية العالمية. إن تراجع قيمة العملة الأوروبية الموحدة سوف يرفع آلياً من قيمة خدمة الدين نظراً إلى تركيبة الدين العمومي التونسي؛ يشير بعض خبرا المالية إلى أنه، ونتيجة لهذه التركيبة، فإن ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الدينار بنسبة 1 في المئة يؤدي بالضرورة إلى زيادة حجم الدين العمومي بنحو 766 مليون دينار (ما يعادل 247 مليون دولار)، أي نحو 0.55 في المئة من إجمالي الناتج المحلي التونسي.
رغم أن هناك حديثا عن قرار سياسي من أصدقاء تونس لإعانة البلاد في مفاوضاتها حتى تتمكن من الخروج من وضعها الاقتصادي والمالي ونيل جواز العبور إلى الأسواق المالية الدولية لتعبئة الموارد المالية الضرورية، فإن عدم القيام بخطوات إصلاحية وفعالة وعدم التعامل بواقعية مع مصادر تمويل الإصلاحات الضرورية سوف لن يجعل من أي إدارة لهذه الأزمة إدارة فعالة. كما أن عدم بناء توافق وطني حول معالم الخطوات المستقبلية نحو الإنقاذ من الانهيار لهو عامل أخر مزعزع، خاصة في ظل رفض الاتحاد العام التونسي للشغل البرنامج المقترح وتنفيذه إضرابا شاملا الشهر الماضي، وفي خضم تأكيد هذا الأخير على التخطيط لتكرار مثل هذا الإضراب.