برهان هلّاك

نشرت رئاسة الجمهورية التونسية يوم الخميس 30 جوان 2022 في الرائد (الجريدة) الرسمي مشروع الدستور الجديد المقترح  بعد ختمه من قبل الرئيس قيس سعيد تمهيدا لعرضه على الاستفتاء الشعبي يوم 25 جويلية المقبل. وبحسب ما جاء في الدستور الجديد فإن رئيس الدولة يتمتع بصلاحيات كبيرة تقلّص آليا من اقتسام السلطة التنفيذية كما في السابق وتجعلها رهينة القرارات الرئاسية بما فيها العزل متى كانت هناك إرادة في ذلك. وأثار نشر مسوّدة الدستور التونسي الجديد ردود أفعال متباينة تجسدت في تصريحات الأطراف المساندة للتوجه الرئاسي إذ رأت في مشروع الدستور الذي سيعرض على الاستفتاء الشعبي لاحقا هذا الشهر "دستوراً متوازناً يكرّس سلطة الشعب"، في ما يصرّ المعارضون لمسار 25 جويلية 2021 بتمامه على أن هذا الدستور يعبّد "طريقاً للانفراد بالسلطة وتكريس الحكم الفردي".

ينص الفصل 110 من مشروع الدستور التونسي الجديد على أن رئيس الجمهورية "لا يسأل عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه مهامه". كما يمنح الرئيس حصانة طيلة توليه الرئاسة وتعلق في حقه كافة آجال التقاضي، وبالرغم من التنصيص على إمكان استئناف الإجراءات بعد انتهاء ولايته، إلا أن ذلك لا يشمل ما قام به في إطار أداء مهامه كرئيس. ويمنح مشروع الدستور رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة في عدة ميادين بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة والمسوؤل عن "ضبط السياسة العامة للدولة وتحديد اختياراتها الأساسية" وباعتبار أنه سيسهر على "تنفيذ القوانين ممارسا السلطة الترتيبية العامة". كما أنه "سيسند، باقتراح من رئيس الحكومة، الوظائف العليا المدنية والعسكرية" وسيتمتّع بحق "عرض مشاريع القوانين" على البرلمان الذي يتعين عليه أن يوليها "أولوية النظر" فيها على سائر مشاريع القوانين باعتبار مصدرها (رئيس الجمهورية). يجب القول بأن كل ما سبق لا يبشر بخير مأمول، فمثل تجميع كل هذه السلطات بيد واحدة لا يمكن أن يشي إلا باستبداد شبه قطعي يزيد من ارتفاع احتماليته انتفاء أي مسؤولية سياسية للرئيس؛ يعلن الجزء المتعلق بعدم إمكان مساءلة رئيس الدولة عما اتخذه من تدابير وقرارات خلال ولايته عن استحالة محاسبة الرئيس مستقبلا عن أي أخطاء وارد ارتكابها من طرفه، وفي ذلك تنصل من المسؤولية وإفلات وحصانة من العقاب عظيمان.

وحتى وإن كنا لا نؤمن "بالديمقراطية السابقة التي كنا ننعم بخيراتها" كما يصورها لنا أزلام العهد البائد من الإخوان والدائرين في فلكهم السياسي، فإن من الواضح أن هذا الدستور لا يؤسس هو الأخر لديمقراطية حقيقية نظرا لاحتكار السلطة بطريقة حصرية من طرف رئيس الجمهورية. وإنّ التأكيد على أنّ هذا الدستور قد أقرّ تحديدا واضحا للنظام السياسي، على عكس الدستور السابق الذي أسهم في خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والصراع المحتدم بين رأسي السلطة التنفيذية من جهة ورئيس مجلس نواب الشعب على الطرف الآخر، فإنه كان بالإمكان تجاوز هذا الخلل من دون المساس بمبدأ التوازن بين السلطات". وذلك ما يحيلنا على تعديل لفظي ومفهومي أخر تم إدخاله على نص مسوّدة الدستور، فالقضاء والتنفيذ والتشريع هي سلط قائمة الذات منذ عهد فلاسفة الأنوار، ومنذ أن نذر الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو لذلك عصارة فكره وتنظيراته الرائدة؛ إن اختزال هذه السلط في وظائف لهو يشي بأن القائم بأمر الدولة، وذلك ما يمكن إطلاقه كتسمية على رئيس الجمهورية بمقتضى هذ النص الدستوري الجديد، هو صاحب السلطة الوحيدة التي تطل على باقي الأجهزة من علياء أو تخاطبها من وراء حجب الحصانة بأن كن، فتكن.

وحسب البند الأخير، فإن الدستور يعتبر نافذا بعد الاستفتاء عليه و ليس بعد التصويت عليه بنعم، وفي ذلك اختلاف جذري بين النص المنشور وبين مسوّدة الدستور التي قدمها الخبير الدستوري الصادق بلعيد الذي كلفه الرئيس قيس سعيد برئاسة لجنة صياغة الدستور؛ تذكر مسوّدة بلعيد في باب الأحكام الختامية بدقة ووضوح نشر "الموافقة على هذا الدستور على إثر إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بأن نتائج الاستفتاء أفضت إلى موافقة الشعب بأغلبية الأصوات المصرح بها". في حين تحضر صياغة مختلفة لإعلان دخول الدستور حيز التنفيذ في النسخة المنشورة بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية: "يدخل الدستور حيز التطبيق ابتداء من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات). وفي ذلك إشارة محتملة خطيرة فحواها أن نتائج الاستفتاء مهما كانت لن تغير من العزم على اعتماد هذا المشروع دستورا رسميا للبلاد التونسية، وفي ذلك ضرب لمنطق وجود الدساتير بالأساس؛ يوجد الدستور لترجمة تراض جماعيّ وعقد اجتماعيّ لتدبير العيش المشترك تحت سقف القانون مع وجود ضمان بتداول سلمي على السلطة، وهذا ما لا يكفله إقرار الدستور الجديد "شاء من شاء وأبى من أبى".

وإن من أبرز الهنات، بل والأخطار المحدقة بالبلاد، في هذا الدستور الجديد مسألة "المجلس الوطني للجهات والأقاليم"؛ تمّ تخصيص القسم الثاني من الباب الثالث للوظيفة التشريعية لمجلس جديد أطلق عليه اسم "المجلس الوطني للجهات والأقاليم". ويتكون هذا المجلس الوطني وفق ما جاء في الفصل 82 من نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم. وينتخب أعضاء كل مجلس جهوي ثلاثة أعضاء من بينهم لتمثيل جهتم بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم. كما ينتخب الأعضاء المنتخبون في المجالس الجهوية في كل إقليم نائبا واحدا من بينهم يمثل هذا الإقليم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم. ويتم تعويض النائب الممثل للإقليم طبقا لما يضبطه القانون الانتخابي

يقول الصحفي التونسي المختار الخلفاوي أنه لا يوجد فصل بين السلطات التي صارت تسمّى وظائف. فـ "الوظيفة" التشريعيّة تمّ تحجيمها من خلال خلق هيكل مواز لمجلس النواب اسمه المجلس الوطني للجهات والأقاليم. وفضلا عن الضبابية في اختصاص كلّ مجلس منهما، فليس لهما الدور الرقابي الفعّال على أداء الحكومة، إذ يحتاج لوم الحكومة إلى مصادقة النصف في المجلسيْن معا. من هذا المنطلق، يمكن فهم إنشاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم بوصفه غرفة برلمانية على أنه تشتيت للسلطات وتفريق للأصوات عبر مجلسين، إذ أن مجلسا واحدا كان يستطيع مساءلة رئيس الجمهورية، بل وحتى محاسبته، أما الآن فلا حسيب ولا رقيب؛ ينضاف هذا المجلس إلى مجلس نوب الشعب ليصيرا أداتين لسن القوانين والتشريعات التي لا يمكن الجزم بمرورها إلى حيز التنفيذ في ظل صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية قد تحول دون المصادقة عليها واعتمادها أصلا. وبذلك تفقد السلطة التشريعية التي باتت وظيفة في الدستور دورا من أدوارها الجوهرية يتمثل في كبح انحرافات سلطوية مفترضة وممكنة للسلطة التنفيذية.

وباعتبار أن مسودة الدستور المنشورة والتي سيتم الاستفتاء عليها في 25 جويلية المقبل لم تنصّ على أن انتخاب المجلس النيابي سيكون بالانتخاب الحر و المباشر، فإن ذلك سيؤدي لإرساء النظام القاعدي، أي انتخاب مجالس محلية تصوت بدورها على ممثلين بالمجلس النيابي أفرادا لا أحزابا؛ سوف يواصل رئيس الجمهورية مهام التشريع عبر إصدار المراسيم حتى التصويت على المجلس النيابي. ما يعني أن قوانين الانتخابات ستكون على مقاس السيد الرئيس، وهو ما يؤكد صحة فرضية أن التغييرات الطارئة على الجانب التشريعي هي تثبيت لأركان النظام القاعدي الذي لطالما أشاد به "قيس سعيد"، بل ويبدو أنه يعمل جاهدا على إقراره بكل السّبل.

وبغض النظر عن كل ما سبق، وحتى إن خاطرنا بأن نكون شكلانيين بعض الشيء، فإن توطئة مشروع الدستور الجديد غلب عليها الطول والحشو والثرثرة، واصطبغت بنزعة ذاتيّة نرجسيّة واضحة، ولغتها فضفاضة سقيمة في جملتها ويغلب عليها التكرار والأخطاء اللغويّة والعبارات الجاهزة. وإن في ذلك ما يشي بأن المراهنة على عواطف المتقبلين لهذا المشروع لها حظ أوفر من التركيز الحقيقي والفعلي على صياغة هذه الوثيقة التعاقدية بشكل يمنع الانحرافات السابقة التي عانت منها البلاد قبل وبعد 2011.