عبد الستار العايدي

بعد التطمينات الأوروبية السياسية الخفيّة والاقتصادية العلنية لقيس سعيّد ودعم يشوبه التردّد من الجانب الأمريكي لمعارضيه، إستغلّ سعيّد زلّة قدم عدد من أعضاء البرلمان بتنظيم جلسة عامة إفتراضية لإقرار قانون ضدّ الإجراءات الاستثنائية، هذه الجلسة التي إستندت إلى رؤية حركة النهضة وما جاورها من أحزاب سياسية لإحراج رئيس الدولة دوليا خاصة بتزامنها مع صدور المؤشرات الايجابية لمفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي،  هذه الجلسة التي منحت قيس سعيّد مبرّرا إستنادا إلى الفصل 72 من الدستور التونسي لحلّ مجلس نواب الشعب نهائيا ومحاكمة كل النواب المجتمعين بتهمة تهديد أمن الدولة وإستقرار مؤسساتها، هذا القرار الفجائي في صيغة ردّ فعل قد يكون سبيلا لمآلات جديدة ولتحويرات ولو جزئية على خارطة الطريق السياسية لقيس سعيّد.

سياسيا، يحاول قيس سعيّد أن يقوّض تدريجيا الأسس التي يستند إليها الدستور الحالي وذلك بتطويعه تأويلا لتنفيذ القرارات التي يصدرها، حيث لم يستند لحلّ البرلمان على ما ورد بالفصلين 89 و99 من الدستور ولم يعتمد كذلك الفصل 80 نفسه الذي تمّ بموجبه تجميد عمل البرلمان في شهر جويلية الماضي، بل لجأ إلى الفصل 72، وهو سعي لتأكيد أن دستور 2014 لم يعد صالحا ونافذا اليوم وأن نصوص فصوله غير متماسكة وقابلة للتأويل وتم وضعه على مقاس المصالح السياسية لفترة ما قبل 25 جويلية 2021 ، أساس سيمنح سعيّد الفرصة للذهاب إلى الانتخابات التشريعية حتى بعد فشل الاستفتاء الشعبي في شهر جويلية القادم حول الاصلاحات الدستورية بعد فشل الاستشارة الالكترونية في تحقيق الغاية من إنجازها، هذه الفرصة ستكون بإجراء تعديلات جزئية على القانون الانتخابي وقانون الأحزاب وبعض من فصول الدستور، إجراءات تمهّد سريعا لإنجاز الانتخابات التشريعية قبل أوانها المحدّد، 17 ديسمبر 2022 ، ورفع الضغط السياسي عن كاهل رئيس الدولة وحكومته أو الحكومة المنتخبة القادمة، ولكن سيكون على قيس سعيّد دفع ثمن هذه الفرصة وهو عدم المضيّ قدما، ولو لمدّة وجيزة، في تنفيذ نقاط مشروعه السياسي البديل. 

ثانيا وفي نفس السياق، قرار حلّ البرلمان في هذه الفترة هو فسحة سياسية ثانية لقيس سعيّد، قد تمنحه صلاحيات أكبر بعد تجريم أكثر من نصف النوّاب المجتمعين يوم أمس 30 مارس 2022 بتهمة التآمر على مؤسسات الدولة ودعوة القضاء لفتح التحقيقات في هذا الصدد، هذه التهمة التي من الممكن أن تقصي عددا من الأحزاب السياسية من المشهد وتسمح لبعض الأحزاب الأخرى المساندة له بالتوسّع في ظل ترحيبها بهذا القرار وإستعدادها للذهاب لإنتخابات تشريعية سابقة لأوانها، هذه الانتخابات التي ستتعلّق بأوامر رئاسية وليس على القانون الانتخابي الحالي الذي يقرّ صدور أمر رئاسي منظّم للانتخابات قبل ثلاثة أشهر من موعدها، وهذا يؤكد أن قيس سعيّد لن يلجأ إلى تغيير خارطته السياسية، طريق من الممكن أن يقود البعض إلى القول بأن هذا القرار بحل البرلمان هو إعلان صريح لبداية تأسيس نظام حكم رئاسي، خاصة وأن شريك السلطة الذي يهدّد الوجود السياسي لرئيس الجمهورية قد فقد صلاحياته بعد إنهاء مهامه فعليا، مما يحيل إلى أن المجلس النيابي القادم بعد الانتخابات التشريعية لن يكون إلا إنعكاسا للأوامر الرئاسية ولصلاحيات السلطة التنفيذية الواسعة بعد أن نجح قيس سعيّد في التغلغل داخل المؤسسة القضائية وتحجيم بعض من أدوارها بدعوى الفساد الذي ينخر جسدها.

على المستوى الاقتصادي، قد يكون من الصعب تسويق صورة سياسية جديدة، بعد أن تم إقناع الشركاء الدوليين، خاصة فرنسا وأمريكا الداعمين لتونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، بأن الوضع السياسي في تونس قد إكتفى بتجميد أعمال البرلمان وذلك لعدم جدوى قرارته في حلّ الأزمات التي تعيشها تونس وأن هذا الوضع الاستثنائي مؤقت خاصة في خضم الضغط الذي يمارسه الكونغرس على قرارات الحكومة الامريكية والدعاية المضادة التي تجوب كل دول أوروبا حول مسار قيس سعيّد وسعيه تأسيس نظام سياسي ديكتاتوري.

هذا القرار الجديد قد يدفع هؤلاء الشركاء إلى خفض درجة الدعم المقدّم لتونس والضمانات الاقتصادية مما سيكون بدوره أحد أسباب عودة تعكّر أجواء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية المانحة بعد أن سعت الحكومة الحالية بكل جهدها خلال الأشهر الماضية التخلص من هذه الغيمة وتقديم كل التنازلات والخضوع لأغلب الشروط التي وضعها الصندوق، يضاف إلى ذلك ما أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل سابقا من تحفظات خلال اللقاء الذي جمع قيادييه بوفد من صندوق النقد الدولي، مما سيحرج موقف الوفد التونسي المفاوض ويبطأ عملية ختم الموافقة على تمويل ميزانية تونس لسنة 2022 في هذا الظرف الاقتصادي الداخلي الصعب جدا الذي تعيشه بالاضافة إلى تؤثرها بالاوضاع الدولية والحرب الروسية الاوكرانية.

وحسب ما يقوله بعض المختصين في المجال الاقتصادي، فإن هذا القرار قد يؤول بتونس الانتقال من مرحلة معالجة المخاطر التي عاشتها وتعيشها البلاد وعلى ضوءها تحددت جلسات المفاوضات السابقة مع صندوق النقد أو تشجيع الاستثمار إلى مرحلة عدم اليقين أو الضبابية بعد هذا الإجراء، الأوضاع الامنية والسياسية والاجتماعية، بمعنى أن الوضع الجديد قد يضعف التفاؤل الحذر الذي أبدته المؤسسات المالية الدولية ويجبر تونس على إيجاد وسائل أخرى ناجعة للدفع بالمفاوضات نحو أفق إيجابي وإلا سيكون على الحكومة التونسية الذهاب إلى نادي باريس مما سيتحتّم دفعها ثمن باهظ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

رغم الموافقة المبدئية على حلّ البرلمان، لا يزال الاتحاد العام التونسي للشغل متشبثا بالضغط على رئيس الجمهورية بتوفير "كافة الضمانات لإنهاء الوضع الاستثنائي الذي طال أكثر من اللاّزم وتوفير كلّ الشروط لوقف تجميع السلطات والعودة إلى المسار الديمقراطي بتركيز المؤسّسات الدستورية واحترام الحقوق والحريات" إلى جانب  تمسّكه بمعالجة تشاركيّة للملفّات الاقتصادية والاجتماعية على قاعدة الإنقاذ وحماية مكاسب الشعب وتحقيق العدالة الاجتماعية، كل هذا يقع تحت طائلة مبادرة الحوار الوطني الذي دعا لها الاتحاد سابقا ولم يجد آذانا صاغية من قصر قرطاج، ومن الممكن أن لا يجد مجدّدا السبيل إلى إقناع قيس سعيّد بعد تحقيقه الانتصار الثاني في حربه ضد البرلمان، مآل الحوار مازال غير واضح وقد يؤدي بالاتحاد إلى فتح صنبور الاحتجاجات والاضرابات العامة التي ستهدّد الفسحة السياسية لقيس سعيد.

في إنتظار ما ستفرج عنه أبواب قصر قرطاج من أوامر رئاسية وقرارات، لا توجد صورة واضحة لما قد ستؤول إليه الاوضاع في الفترة المقبلة.