كل واحد منا في حياته شخص قريب أو صديق أو زميل متدين.. يظهر علامات التقوى في شكله وطريقة كلامه.. غالبا مايكون طيب المعشر يجيد فن المخالطة وفن الجدال.. قادر بأسلوب ترديده لمقولات وفتاوي ذات جرس أن يقنعك بأن العصيدة حرام وقيادة المرأة للسيارة حرام والتصوير حرام وفوق ذلك يمكنه أن يشعرك بالاشمئزاز من نفسك لأنك تدخن ولاتعفي لحيتك وتحف شاربك ولاترتدي إزارا أفغانيا يكشف نصف ساقيك النحيفتين كساقي جرادة ..وهو نفسه يمكنه أن يغشك ببيعك سيارة معيبة أو سلعة منتهية الصلاحية أو يماطل في تسديد دين مستحق أو يأكل عليك حقك المشروع في ميراث مشترك أو يفجر مدرسة أطفالك بدعوى محاربة الطاغوت ..هذا النصاب " الاخلاقي " مصاب بمرض إنعدام الحس السليم يحتاج للعزل الاجتماعي قبل العزل الصحي لو كنا ننتمي لثقافة معافاة..لكن المشكلة أن مرضه ليس نتاج خلل هرموني أو طفرة جينية بل خلل في فهم الدين عمره مئات السنين بدأ منذ تحول النص من منهج تفكير في الحياة إلى برنامج عمل سياسي يسعى للسلطة والثروة..
التوظيف الديني لأغراض براغماتية على مستوى الأفراد ليس هو الأخطر بل لعله تفريع ثانوي لمشروع إيديولوجي  إستغل الدين في خدمة الهيمنة والاستغلال الذي حكم تاريخ البشرية منذ ظهور الاقطاع البدائي وحتى ظهور الرأسمالية المتوحشة في لحظتنا هذه ..
إن الدين كنظام معرفة وفهم  ، هو مشترك إنساني شأنه شأن القيم والمثل العليا التي تشكل الضابط القيمي والاخلاقي في حياة المجتمعات و حياة الانسان الفرد وترتقي بروحانيته وعقلانيته إلى المصاف الأسمى التي تضعه فوق مستوى بقية الكائنات وترسل ملكاته عبر أفق لامحدود من حرية التعبير والتفكير والابداع ..لكنه تحول عن غايته الأساسية على يد زمرة من رجال الدين المأجورين - في التاريخ الاسلامي والمسيحي واليهودي على الاقل - ليصبح أداة فعالة للسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية , وتدجين الانسان لمصلحة السلطة الزمانية ممثلة في الملوك والزعماء ومدراء الشركات وأصحاب الثروات ..
رجال الدين هؤلاء من أيام معبد آمون في مصر القديمة حاولوا إنتحال صفة الله " عز وجل" عبر مشاركته في كل ما أختص به ذاته , فهم لايكتفون بإدعاء الإطلاع على النوايا وماتخفي الصدور , ومناهضة ما ينتجه العقل من علوم ومكتشفات في الحياة الدنيا ..ولكنهم ينازعونه في أعمال اليوم الآخرة إذ يوزعون صكوك الجنة وتذاكر جهنم بما يتلائم مع مواقعهم في الصراع الاجتماعي ووجهات نظرهم في الخير والشر..مستغلين خوف الناس وجهلهم بالوظيفة الاخلاقية للدين في تاريخ البشرية..
إنهم يقفون بين القلوب والعقول وبين إلاهها الأسير في كتب ومخطوطات وقراءات بدائية تجاوزتها الازمنة الحضارية والفكرية - لا نفع منها وفيها غير تكريس الحكم بجهل العوام , والاعلاء من شأن المشعوذ الذي يحتكر معرفة فك طلاسمها ورموزها الخرافية عن طريق توريط المطلق في النسبي والسماء في التاريخ..
المفارقة أن إقتباس المعالجة الغربية " المسيحية" للمسألة الدينية - حسب مايرى الجابري في نقد العقل العربي - والتي افضت في النهاية إلى إختصار مجال فاعلية الدين داخل دور العبادة ..غير متاح بالنسبة لنا , لسبب وحيد وهو إفتقار تجربتنا الفكرية والثقافية , لتراث عقلي فلسفي مستقل عن الاسلام , كما هو الحال في التجربة الاوروبية الغربية ..
خيار الضرورة امامنا , تحرير الدين ونصوصه التأسيسية من سجن القراءة القديمة , وإخضاعه لسلطة العقل وسلطة التاريخ عبر إعتناق فكرة " المعتزلة " لإعادة فهم وتلقي الرسالة بما يناسب معطيات اللحظة الحضارية والفكرية التي نعيشها ..
نجاتنا وخلاصنا من مصير الإندثار الذي ينتظر أمتنا وحضارتنا ، في استخدام مطرقة العقل لكسر قيود السماء , من اجل إستعادة المنطق والتواصل بين القيم والمفاهيم الاجتماعية والاخلاقية والفكرية التي صاغها العرف في وعاء الدين , وبين هذا العالم الذي نعيش على هوامشه كمتفرجين أشبه بالأموات ..
إن ترك الدين ألعوبة في يد خدام السلطة من إبن تيمية إلى يوسف القرضاوي والغرياني سيفضى بنا في النهاية إلى مشاهدة الملايين من شباب المسلمين يفرون من دين الله أفواجا إلى أحضان الإلحاد والتنصير 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة