مصطفى حفيظ

يمكن التسويق لثقافة بلد ما عن طريق الإنتاج الثقافي العابر للحدود، وليس هناك أسرع وأقوى تأثيرا من الإنتاج السينمائي والتلفزيوني بالأخص، لكن حظ البلدان العربية من هذا الإنتاج غير متساوٍ، فنجد مصر مثلا تتربع على أكبر قدر من الإنتاج الدرامي وتسويقه لجميع الأقطار العربية، وعلى مدار ثلاثة أو أربعة عقود، وبرغم المنافسة السورية اللبنانية الشرسة، ظّلت مصر هي المسيطرة، لكن اليوم، أضحى الإنتاج الدرامي التركي أكثر حضورا عند المُتلقي العربي عموما، وتمكنت تركيا بسياستها الثقافية أن تسوّق للسياحة والثقافة التركية، حتى أضحت إسطنبول مثلا وجهة سياحية عربية بامتياز، فلماذا مثلا في الجزائر على سبيل المثال، عجز قطاع الثقافة عن الدفع بالدراما والسينما الجزائرية إلى خارج حدود القطر؟ مع العلم أن بالجزائر فنانين ومبدعين سواء في التمثيل، أو الإخراج أو كتابة السيناريو؟ فهل من سبيل للنهوض بالقطاع؟

قبل سنة 2000، لم يكن المشاهد الجزائري، والعربي عموما، يعرف الدراما التركية، كان التركيز المحلي على شراء الإنتاج الدرامي المصري والسوري، والأعمال الكورية المترجمة أو المدبلجة للعربية، لكن بعد دخولنا الألفية الجديدة، تغيّرت اتجاهات المشاهد العربي، وأصبح الإنتاج التركي محل استقطاب للكثير من القنوات التلفزيونية المحلية العربية، ومع تزايد عدد الفضائيات العربية وتنافسها في جذب اهتمام المُتلقي العربي، وظهور السوشل ميديا وما لها من تأثير على ميول جمهور وسائل الاعلام، ازداد الاهتمام بالدراما التركية لدرجة أن تركيا وجدت في البلاد العربية سوقا رائجة، فتمت ترجمة ودبلجة الكثير من الأعمال الدرامية التي نالت شهرة واسعة في تركيا وخارجها، أهمها المسلسلات الرومانسية، مثل مسلسل "نور"، سلسلة رومانسية نجحت في استقطاب المشاهدين العرب، أو مسلسل "سنوات الضياع"، وهو أيضا من نوع الدراما الرومنسية التي تعالج مشاكل الحب والزواج والخيانة، ومسلسل "العشق الممنوع" الذي تناول قضية تُعد طابو بالنسبة للجمهور العربي، حتى أنه أثار ضجة إعلامية في الوطني العربي لطبيعة القصة التي تحكي عن الخيانة الزوجية وعلاقة غرامية محرمة بين امرأة متزوجة وشاب أعزب قريب زوجها.

المهم أن الموجة الأولى من الأعمال الدرامية التركية لقيت رواجا كبيرا ونجحت في جذب اهتمام المشاهد العربي، ولعل هذا ما جعل صناع الدراما التركية يفكرون في الاتجاه للدراما التاريخية التي تسرد أهم مراحل الحكم العثماني وكيف أصبحت تركيا امبراطورية مترامية الأطراف، نجد مثلا مسلسل "حريم السلطان"، وهو عمل درامي يحكي عن كيف كان السلطان سليمان القانوني يدير شؤون الإمبراطورية بحكمة وقوة برغم الصورة التي صوّرها المسلسل عن النساء والصراعات الداخلية في القصر، والتي اعتبرها النقاد صورة مشوهة لحقيقة السلطان سليمان القانوني. لكن ما يهمنا في هذا هو كيف تحول الإنتاج الدرامي في تركيا لهذا النوع من الدراما التاريخية، ولماذا عرفت رواجا في السنوات التي شهدت فيها عديد البلدان العربية ما يُسمى بثورات الربيع العربي؟ رأينا كيف دخلت مصر في دوامة نتيجة تلك الثورة، وكيف صعد الإسلام السياسي بعد نجاح الاخوان المسلمين في الانتخابات، وكيف كانت تُتهم أنقرة بإثارة تلك الفوضى ودعمها للإسلاميين. والحقيقة، أن تركيا تكون قد انتهزت الفرصة في جو الفوضى العربية التي سادت منذ اندلاع هذه الثورات في مصر، تونس، سوريا، اليمن، ليبيا، وغيّرت من سياستها الثقافية في الإنتاج الدرامي مركزة على الأعمال التاريخية للترويج لفكرة الخلافة وعودة الإمبراطورية العثمانية كحل بديل عن فشل السياسات العربية في الحكم. 

وتُعد الأعمال الدرامية التاريخية التركية هي الموجة الثانية من الإنتاج التركي الذي لقي رواجا لدى المشاهد العربي، ومن هذه الأعمال نجد مسلسل "السلطان الفاتح" الذي يحكي قصة السلطان العثماني محمد الثاني الملقب بالفاتح، الذي فتح القسطنطينية (إسطنبول) عام 1453، وطبعا معروف في التُراث الإسلامي أن الرسول حدّث أصحابه عن فتح القسطنطينية، وتستند الرواية التاريخية هذه على ما ورد في مسند أحمد والتاريخ الكبير والصغير للبخاري ومستدرك الحاكم وصحيح مسلم قول النبيّ (ص): "لتفتحن القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأمير أميرها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش."، لعل هذا الحديث هو ما زاد من اهتمام المشاهد العربي بالأعمال التي تمجد بطولات العثمانيين، ربما وجد فيها عزاءه جراء ما وقع من خراب وسقوط الأنظمة السياسية الحاكمة في فترة ما سمي بالربيع العربي. إذن، كانت أعمال مثل "قيامة ارطغرل" أو المسلسل الذي ما زال يُعرض حتى اللحظة "قيامة عُثمان"، أو مسلسل "عبد الحميد" و"نهضة السلاجقة العظمى"، كلها انتاجا دراميا يحكي أمجاد التاريخ العثماني الذي يلقى قبولا عند الأتراك وتدعمه الحكومة معنويا أو ربما ماديا، حتى أنّ الرئيس رجب طيب اردوغان زار في الكثير من المرّات مواقع تصوير مثل هذه المسلسلات، وطبعا، يتضح بأن هناك توجها سياسيا عاما لدى القيادة السياسية التركية لتمجيد الماضي العثماني، وهو ربما تمجيد فكرة الخلافة العثمانية التي كان الوطن العربي جزء منها. 

ومهما كانت نوايا الدراما التركية التاريخية، فهي في النهاية تخدم سياسة البلد الذي تنتمي إليه، ففي النهاية استطاعت النجاح والتأثير في ملايين المشاهدين، وأظهرت تركيا للعالم كدولة قوية مترامية الأطراف، وليس الدراما التاريخية فقط التي استطاعت اظهار وجه تركيا الحضاري والثقافي، بل الدراما الاجتماعية أيضا، فالعديد من المسلسلات تروّج للثقافة والسياحة التركية، وحتى للإنتاج العسكري والاقتصادي، وشهدنا مسلسلات عسكرية تركية تُظهر قوة الجيش التركي في محاربة الإرهاب، وتُظهر تلك المسلسلات امتلاك تركيا لطائرات بدون طيّار ومختلف الأسلحة التي تصنعها، إذن، تمكنت الدراما من الترويج لصورة البلاد بشكل عام، وصارت تركيا اليوم قبلة سياحية عربية وعالمية بفضل هذه الدراما، لكن لماذا عجزت الدراما العربية والمغاربية بالتحديد في دخول هذا المُعترك الجديد؟

بالرغم محاولات الدراما التونسية، الجزائرية والمغربية، وحديثا الليبية، في انتاج بعض الأعمال التلفزيونية، بقيت مناسباتية مرتبطة بشهر رمضان فقط، على عكس الدراما التركية التي تُنتج على مدار السنة، شهدنا بعض الأعمال الدرامية المُشتركة بين تونس والجزائر مثلا، عملين دراميين بإنتاج مشترك ومُخرج تركي وضع لمسته التركية على مسلسل "مشاعر"، لكن في الجزائر، بقيت الأعمال تراوح مكانها، وبالكاد تخرج من حدود الجزائر، فمثلا، لم ينجح ولا مسلسل درامي جزائري في استقطاب المشاهد العربي برغم عرض إحدى المسلسلات في قنوات فضائية عربية، وتونسية، إذن، أين يكمن الإشكال؟ هل في مخرجينا، أم في ممثلينا أم في كتاب السيناريو مثلا، أم هو مشكل التمويل والإنتاج، أم في وزارة الثقافة التي عجزت عن احداث تغيير حقيقي في هذا المجال بما أنها وصية على القطاع؟

يمكننا في الجزائر أن ننتج أعمالا درامية في المستوى، فهناك ممثلين وفنانين ومسرحيين ومخرجين ومنتجين، هذه حقيقة، وكثيرا ما يشتكي هؤلاء من قانون يحمي الفنان، وعدم اهتمام وزارة الثقافة بتطوير هذا القطاع، فالأمر يبدو أحيانا مثيرا للتساؤل، فكيف مثلا، تُخصص مبالغ مالية ضخمة لذات الغرض، ثم لا تظهر نتائج على أرض الواقع، وشهدنا كيف عجزت الوزارة عن انتاج فيلم الأمير عبد القادر، وهو عمل سينمائي قوي كان سيكون بداية عودة السينما الجزائرية للمحافل الدولية بعدما سجلت حضورها سابقا بأعمال مخرجين جزائريين كالمخرج محمد الأخضر حمينة، فهذا الأخير هو الوحيد الذي استطاع افتكاك جائزة السعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي العالمي في فرنسا، عن فيلمه "وقائع سنين الجمر" سنة 1975، إذن، مشكلتنا ليست في المخرجين، وليست في الممثلين، بل في سياسة ثقافية تفكّر في تسويق صورة الجزائر في الخارج، لقد كانت وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي في منصبها أثناء البحبوحة المالية التي عاشتها الجزائر أيام ارتفاع سعر البترول في عهدة الرئيس الراحل "بوتفليقة"، وكانت تخصص الدولة مبالغ مالية كبيرة لتشجيع الثقافة في شتى المجالات، منها انتاج فيلم "الأمير عبد القادر" الذي كان سيكون ملحمة تاريخية تُسوق لصورة الجزائر في المحافل الدولية، لكن الأمور انتهت إلى فضيحة فساد مالي كبير وذهب مشروع الفيلم أدراج الرياح. متى ستتغير سياسة الوزارة التي تعتبر هي الهيئة المسؤولة عن الإنتاج الثقافي في الجزائر؟ هل ستتغير الذهنيات لدى المسؤولين؟ لأن الهدف الأسمى لقطاع الثقافة يجب أن يكون كيفية اسماع صوتنا وتسويق صورتنا للخارج، فنحن عندنا من قصص البطولات التاريخية ما يكفي لصناعة عشرات بل مئات الأعمال الدرامية الناجحة، التي ستؤكد وجود تاريخ مجيد لهذه الأمة الجزائرية، وتُفند أطروحة بعض الفرنسيين الذي تجرؤوا على انكار وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي. 

إنّ الجزائر بلد بحجم قارة، مساحتها ومناخها وتضاريسها، وصحاريها، وجبالها، مدنها وقراها ومواقعها الأثرية، تنوعها الثقافي واللغوي، فولكلورها الشعبي شرقا وغربا شمالا وجنوبا، كلها خصائص ومميزات تصلح للإنتاج الدرامي والسينمائي بجودة عالمية واحترافية، لدينا الكفاءات، ولدينا الأماكن التي تصلح للتصوير، ربما أجمل من تلك الأماكن التي يتم الترويج لها في تركيا لجلب السياح إليها، لا ينقصنا سوى سياسة ثقافية واضحة المعالم، تنهض بالفن بكل أبعاده لترسم صورة نريدها أن تصل للعالم، لحظتها فقط يمكننا صناعة سينما ودراما يمكنها أن تُنافس عربيا وعالميا.