لا حاجة للتذكير بأن سؤال النهوض والتقدم وبناء المجتمعات وتحقيق التنمية، هو سؤال معرفي، وليس سؤالا أيديولوجيا، وهذا هو المدخل الذي أسوقه للحديث عن عدم صلاحية جماعة الإخوان المسلمين للحكم.
وهذا هو أيضا السبب وراء ما يَجْنُوَنهُ من فشل وإخفاق في كل مرة يصلون فيها إلى سدة الحكم، وقد تكررت التجارب في السودان الذي أحاله حكمهم إلى أرض احتراب وتشرذم وتقسيم مع مزيد الفقر والمعاناة، وأخيرا في مصر عندما ظهر إخفاقهم واضحا جليا خلال فترة وجيزة من استلامهم الحكم، وثارت الحشود الشعبية ضدهم، بعد أداء عام واحد من السيطرة الكاملة على مرافق الحياة في مصر. فقد حصلوا على تفويض من أغلبية الشعب بالحكم، بالسيطرة على البرلمان مع شركائهم في الإسلام السياسي، والوصول إلى منصب رئيس الجمهورية مقابل أعتى المنافسين، وأصدروا دستورا يتفق مع منهجهم، قام بصياغته وتحريره أناس من اختيارهم، ووضعوا على رأس الجهاز التنفيذي حكومة من عناصرهم، وأصدروا من التشريعات والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية وحكومته الإخوانية، ما طال أغلب مناحي الحياة في مصر. ومع ذلك فإن كل هذه الترتيبات التي تستهدف التمكين لحكمهم وتعزيزه لدى أهل البلاد، لم تفلح إلا في تأليب الرأي العام ضدهم، وازدياد النفور وخيبة الأمل لدى المواطن المصري من سياساتهم. واستطاعت حركة شبابية جاءت من خارج الكيانات السياسة ومن خارج الأحزاب والمؤسسات التقليدية، أن تجمع توقيعات في طرح الثقة من الرئيس، بلغ تعدادها ضعف الأصوات التي نالها عند انتخابه، ثم دعت هذه الحركة التي تسمّى تمرد، جماهير الشعب إلى الخروج في مسيرات للتعبير عن رفضها لحكم الإخوان، فخرج ما يزيد عن ثلاثين مليون إنسان، يطالبون الإخوان بالتنحي عن الحكم، وإتاحة الفرصة لانتخابات رئاسية جديدة.
فلماذا كان الفشل حتميا في حالة الإخوان المسلمين في السلطة؟ ولماذا كان نجاحهم مستحيلا في إدارة المجتمع والدولة؟ وقبل أن أدلف للجواب عن هذين السؤالين، أقول أنه لا يجب أن ينساق أحد إلى الربط بين الجماعة وجوهر الدين ومقاصده وأهدافه، فهم ليسوا إلا واجهة سياسية لجانب من جوانب الدين، وفشلهم في الحكم لا يجب أن ينعكس سلبا على الدين الإسلامي كمنهج في حياة البشر ودليل للإنسان في سلوكه واخلاقياته ومعاملاته، واعتباره طاقة وجدانية روحية تجلب الطمأنينة للإنسان في الدنيا والفوز في الدار الآخرة. إنما هو فشل لناشطين سياسيين ينسبون أنفسهم للإسلام، ونعرف أن الإسلام لا يجب بالضرورة أن يتطابق مع مثل هذه الجماعات في كل ما تقول وتعتقد، ولا هي بالضرورة تعبر عن وجهه الحقيقي، وهناك منذ فجر التاريخ الإسلامي جماعات سمّت نفسها الخوارج، وأخرى ثارت ضد الظلم الاجتماعي مثل حركة الزنج، وغيرهم سمّوا أنفسهم القرامطة، وكانوا تعبيرا عن حركة اجتماعية سياسية أكثر مما هم حالة من حالات التجلي لجوهر الدين وحقيقته.
ويأتي فشل الإخوان في الحكم وسقوطهم، عبر كل التجارب التي خاضوها، في حالة الإخفاق وخيبة المسعى، من كونهم حركة دعوية إرشادية تقوم على النصح والتوجيه وتذكير الناس بدينهم، ثم تحولت إلى دعوة للتسيد على المجتمع وفرض أجندتها عليه، وتحكيم قواعد وشروط لا تصلح أداة للحكم وتسيير المجتمعات، فلا حكم ولا إدارة للدولة ودواليبها وأجهزتها ومؤسساتها يمكن أن يقوم على الجدارة الدينية، وهو ما تسعى أي جماعة من جماعات الإخوان في أي قطر من الأقطار الإسلامية إلى تطبيقه، إذ أنها لن تأتي إلى الحكم ثم تستعير كفاءات من خارج الجماعة لا تدين بالولاء لها ولا تنسجم مع المنهج الذي تتبعه، مهما كانت درجة الكفاءة والعلم والمعرفة لهذا العنصر أو ذاك، طالما هو من خارج أعضاء الجماعة، فهي ستضع مثلا في وزارة الخزانة وزيرا من كوادرها وليكن صاحب اختصاص مالي، ولكن ليست جدارته في إدارة المال هي التي جاءت به، وإنما عضويته في جماعة دينية، من هنا يسقط مبدأ الجدارة والكفاءة على حساب الانتصار للتقوى وممارسة الشعائر الدينية، وهو ما حصل في مصر.
فالرجل الذي قدمته الجماعة لاحتلال منصب الرئيس هو خبير معادن، انتقل بفضل الحشد والمناصرة والدعاية من قبل الإخوان إلى رئيس دولة، في مخالفة لقواعد الجدارة والأحقية وهكذا جاء هو برئيس وزراء من أهل اللحى مثله، ووزراء على شاكلته دون اعتبار للجدارة، وهو عكس ما يحدث في حكم مدني غير أيديولوجي وغير ديني، فإذا وجدت لوزارة الصحة وزيرا يستطيع تطهير البلاد من وباء البلهارسيا فلن تسأله عن قوة تقواه وإيمانه بل لن تسأل عن دينه إن كان مسلما أو مسيحيا أو بوذيا أو يهوديا أو بلا دين، لأن الهدف هو النجاح في طرد الوباء، وليس أن يصلي خلفه الناس. فهذه الجدارة الدينية يحتاجها منصب المفتي أو شيخ الأزهر أو إمام جامع لا وظائف تخصصية مدنية، ولا أرى مستقبلا سياسيا لمثل هذه الجماعات التي تتبع تنظيم الإخوان المسلمين، غير أن تعود إلى المهمة الأصلية التي تصلح لها؛ جماعة للهدي والإرشاد وتذكير الناس بدينهم بعيدا عن الحكم والسياسة، وأهلا وسهلا بها في أي نشاط يتصل بمجال الأعمال الخيرية والمبادرات الاجتماعية وصرف الجهد لرعاية الأرامل والأيتام والمعاقين وذوي الحاجات واستنفار الضمير الجمعي لإسناد هذه الفئات وجمع التبرعات من أجلها، كما هو الحال في المجتمعات الغربية التي انصرفت جماعتها الدينية انصرافا كاملا للعمل الخيري التطوعي على قاعدة الدين لله والوطن للجميع.