الجزء الأول

(الإطاحة براس جدير) 


لعل أهم أمرين يرتبطان ارتباطا وثيقا بفضيحة الإطاحة الأمريكية بمعبر رأس جدير هما،  الأول : وقوع هذه الإطاحة مع أول بزوغ للنجمة الامريكية ستيفاني خوري في ليبيا، وهو ما جعل هذه الإطاحة منسجمة تماما مع تاريخ هذه السيدة المقترن بتصاعد سياسات التوحش بكل منطقة من مناطق النزاع التي وجدت فيها .

واما ثانيهما فهو تحقق الانسجام الثاني لهذه الإطاحة الامريكية بذات المعبر ٬ مع طبيعة التاريخ الأمريكي مع ليبيا ٬ والذي نُقل عن المؤرخ الأمريكي الشهير ويليام جيمس ديورانت اختزاله بالقول: بأن واشنطن لم تترك ليبيا في حالها منذ ظهور سلاح البحرية الأمريكية لأول مرة في التاريخ ٬ وهو ما كان في الثالث عشر من أكتوبر من العام 1775م ٬ واستمرت هذه المضايقة بلا كلل حتى ساعتنا هذه. 

حيث اعتمدت واشنطن ومنذ ذلك التاريخ ٬ على سياسة التحرش العدائي كأساس للتعامل مع ليبيا ٬ في كل مرة تواجه فيها أمرا صعبا مع الليبيين ٬ والذي كان آخره إفساد أول انتفاضتهم بتحالف غدر الاوديسا ٬ وإفساد آخرها باحتلال البلاد.

بل ولقد جاء عدوان واشنطن علي ليبيا مبكرا جدا ٬ حتى بالنسبة لميلاد أمريكا نفسها ٬ حيث شنت واشنطن أولى حروبها على ليبيا وهي تحت قيادة الزعيم الليبي يوسف باشا القره مانلي بالعام 1801م ٬ أي بزمن لم تكن فيه هذه الأمريكا قد احتفلت بعد بذكرى استقلالها العشرين. بل ولقد وقع ذلك العدوان الأمريكي على ليبيا بوقت لم يكن قد توالى فيه على حكمها سوى ثلاثة رؤساء ٬ ليصبح ثالثهم هذا ٬ وهو توماس جيفرسون ٬ الذي يعتبره الامريكيون أعظم أبائهم المؤسسون ٬ هو اول من  بادر من قادتهم إلى ممارسة سياسة التحرش والعداون العسكريين ضد ليبيا. 

ولان التاريخ الأمريكي ما فتيء يعيد  نفسه ٬ ومنذ القرن التاسع عشر ٬ بمواصلة هديره بوجوه الليبيين فان واشنطن ٬ المتلحفة بذهنية هذا التاريخ  ٬ مضافا إليه تمسكها الشديد بافتكاكها العنيف لدور شرطي العالم ٬ استنادا إلى شرعية دولية عرفيه ٬ منحتها لنفسها لكونها القوة الامبريالية الأخطر في العالم ٬ فقد كان من المتوقع جدا أن تقوم واشنطن (ودونا عن كل دول العالم الأخرى ٬ بما فيها العظمى منها) ٬ ببذل ما بوسعها للتصدي للعملية المافيوزية الروسية التي نفذتها موسكو في ليبيا ٬ بطباعتها وتسويقها سرا لكميات كبيرة من فئة الخمسين دينارا الليبية ٬ وذلك فور ذيوع خبر نجاح هذه العملية ٬ وتأكد واشنطن من حصول الفيلق الروسي بليبيا ٬ من وراء هذه العملية ٬ على تمويل استراتيجي بأكثر من 200 مليون دولار ٬ إلى جانب حصوله بواسطة أموال محلية إضافية على مئات الأطنان من المعدات و التجهيزات اللوجستية من السوق المحلية ٬ وهي الأموال التي تدعي موسكو بانها جملة ديونها على الرجمة ٬ وأن واشنطن كانت تمنعها من الوصول اليها ٬ بسبب السيطرة الامريكية المطلقة على المصرف المركزي الليبي حجرا وخزائنا و بشرا.

وكان فعلا أن ردت واشنطن على هذه السخرية الروسية منها بقلب الدولة التي ظنت أمريكا عقب استباحتها لها بانها قد أضحت عقر دار من عقور ديارها ٬ باستهداف موسكو بخطوتين نقديتين متوازيتين وعاجلتين ٬ أرادت منهما واشنطن أن يكونا تنكيلين بالروس ٬ بيد إنهما لم يكونا لموسكو إلا تنكيلين  افتراضيين أجوفين ٬ بذات الوقت الذي كانا فيه تنكيلين حقيقيين بل و متوحشين بالليبيين الذين نفثت واشنطن بجلودهم  وعظامهم كل سمها الزعاف الذي حشدته بقلب هذا الإجراء ٬ الذى تكوّن من خطوتين عاجلتين  ٬ كانت أولهما توجيه واشنطن لوكيلها المحلي بالبنك المركزي بإلغاء فئة الخمسين دينار من التداول ٬ لينتهي هذا الاجراء الى نيل موسكو للملايين من الدولارات والدينارات ٬ بينما نال الليبيون أعباء ارهاق و ذل التخلص من ورقة الخمسين المنبوذة ٬ الى جانب حصادهم لرعب هذا النبذ الذى انتهى الى تعظيم ازمة الإفلاس الفني للدولة ومضاعفة معاناة المواطنين الغارقين أصلا بأزمة شح نقدي خانقة ٬ هذا الى جانب تصاعد طغيان المرابين بمعاشات الناس ومدخراتهم المصرفية. 

وأما الخطوة الثانية فكانت خطوة تحقير قيمة الدينار الليبي التي استهدفت منها واشنطن الانتقام من الروس أيضا عبر رفع كلفة الدولار على موسكو ٬ تحسبا لإعادتها الكرة بطباعة فئات نقدية أخرى ٬ وهو الاجراء الباطل الذي تم تنفيذه على طريقة  تقليب احشاء كلب نافق ٬ بسبب إصرار واشنطن على رفض اكمال نصاب مجلس إدارة البنك المركزي الليبي للإبقاء عليه رهينة بين يديها من خلال تعريضه لوضع طاريء يجعله دمية بيد المحافظ ٬ ليؤول إليها كل أمر بالتصرف في الأرصدة الليبية والسياسات النقدية للبلاد ٬ طالما أن هذا الاخير بدوره هو مجرد دمية بين يديها ٬ وعليه وحتى تبقي واشنطن على البنك المركزي اسفل نعليها وتحقق غايتها التحقيرية للدينار ٬ فقد لجأت الى استخدام وكيل محلي آخر لحمل وزر اقتراف هذه الشائنة النقدية ٬ وهو عقيلة صالح ٬ الذي كانت واشنطن تدرك تماما شدة تعطشه للتقرب من خازندار أموال الليبيين ٬ ومنافسة دبيبة على رضا الامريكان . وكان أن أنجزت واشنطن فعلا هذه المهمة بدفع المحافظ الى تفويض عقيلة باطلا بالحلول محله بإصدار قرار تحقير الدينار ٬ الذي يعد اصدار عقيله له بحكم الجمع بين الاختين .

ورغم التصاعد الافقي والعمودي للاعتراضات الدامغة للعديد من الخبراء والمؤسسات المالية على مؤامرة تحقير الدينار ورفضهم القطعي لقبول مبرراتها وتحذيرهم الشديد من خطورتها على مصالح اغلبية الليبيين الحيوية ٬ إلا ان هذه المؤامرة النقدية كانت قد مررت فعلا وبأسرع مما توقع الجميع تحت التوجيه والرعاية المباشرين للسفير الأمريكي ريتشارد نورلاند ٬ الذي كان أول من ضلل الرأي العام بنشر إشاعة تعرض الدينار الليبي لخطر الانهيار . ويجمع مراقبو الاقتصاد الليبي اليوم على أن رضوخ وكيلي واشنطن المحليين لتنفيذ هذه الخطوة قد ادي الى تراجع خطير بالقدرة الاقتصادية للأسرة الليبية ٬ متنبئين بأن ما أضافه مجيء هذا التحقير الجديد للدينار الليبي من اعباء معيشية الى تلك التي راكمتها سنوات (ليل الاوديسا) يهدد عمليا بفتح أبواب البلاد لكل أشكال الأمراض السياسية والأمنية والاجتماعية ٬ وخاصة الأخلاقية و العنفية منها.


وأما ثاني الاجرائين اللذين استهدفت بهما واشنطن التصدي للاستقواء الروسي في ليبيا ٬ والذي يعد الاجراء الأخطر والاشد تهديدا لأمن واستقلال واستقرار ليبيا ٬ فهو قرار واشنطن باجتياح غرب البلاد عسكريا عبر مرتزقة شركة امنتيوم العسكرية الخاصة. لقد ظهر واضحا بان شدة الصفعة التي تلقتها واشنطن صاحبة الكلمة الفصل بسياسات البنك المركزي الليبي ٬ بنجاح موسكو باستعادة ديونها لدى الرجمة ٬ بسحبها لملايين الدولارات من بين مخالب واشنطن وهي تغط بسباتها العميق فوق (يد و أقلام واختام ومفاتيح خزائن) وكيلها في البنك المركزي ٬ قد افقدتها صوابها ٬ حد دفعها لمخالفة نهجها الاستراتيجي الذي سارت عليه منذ اسقاطها للدولة الليبية بالعام 2011 وحتى لحظة تلقيها للصفعة الروسية ٬ وهو نهج الاجتياح العسكري شبه السري الذي نفذته واشنطن على نمط الغزو البارد و الشامل والهادي والمستتر بمساعدة وكلائها المحليين ٬ الى جانب تعميق هيمنتها  السياسية البطيئة و المركزة على البلاد ٬ (هذا ولسوف نوضح مظاهر هذا الغزو والهيمنة السياسية الأمريكيين بحلقة مستقلة) ٬ وذلك منذ اطاحتهم بالبلاد وحتى العام 2018 ٬ وهى المدة التي لم يتواجد خلالها في البلاد ولا حتى كلب بوليسي روسي واحد ٬ فما بالك بمقاتل آدمي ٬ مرتزق كان ام جنديا  رسميا . 

بيد أن نجاح العملية المافيوزية الروسية في ليبيا ٬ جاء  ليفجر سياسة الاوديسا السرية ودفع واشنطن نحو التخلي المفاجيء عن كل حرصها على خداع الليبيين باخفاء غزوها السري للبلاد وهيمنتها السياسية المستترة عليها ٬ وذلك بتحولها الى حالة التعبير الفج و  الفوري عن سياستها الاستعمارية في ليبيا ٬ بتعجيل تعاقد بنتاغونها مع شركة امنتيوم العسكرية الامريكية الخاصة ٬ ودفعها لاستخدام مرتزقتها بتنفيذ اجتياح عاجل لكل المنشآت العسكرية الاستراتيجية بمناطق غرب البلاد ٬ ولتهيئتها على الاغلب لتكون مقارا دائمة لتواجد قوات امريكية رسمية ٬ على الأقل الى حين تحديد مصير صراعها مع روسيا في ليبيا. 


هذا و لقد جاءت اولى انباء الغزو ٬ بذيوع اخبار توجيه حكومة طرابلس لأوامرها للجماعات المسلحة الليبية المتمركزة بقاعدة معيتيقة وميناء طرابلس بمغادرتهما  فورا ٬ ولعل ما زاد من تحديد طبيعة الساكن الجديد للقاعدة والميناء ٬ هي روح القطط الاليفة التي اظهرتها المليشيات المعنية ٬ المعروفة بضراوتها ٬ بإخلائها الفوري لمعقليها اللذين كانت تتحصن فيهما . كما صدرت أوامر عاجلة جدا بتسريع إتمام اعمال ما يسمى بمطار طرابلس الجديد ٬ لانتقال الحركة الجوية المدنية إليه باعجل الأوقات ٬ هذا الى جانب دوران حديث بجهة محلية فنية عن قرب نقل المتطرفين المعتقلين بمعتيقة الى مكان آخر يقال انه سجن ابوسليم ٬ الذي ذكر نفس المصدر تسليم إدارته لجهة أجنبية . وإذا ما اضفنا الى كل هذا وجود واشنطن عسكريا عبر وكيليها التركي والطلياني بالمنافذ البحرية والجوية بمصراتة والخمس ومليتة ٬ الى جانب ما تشهده  قاعدة  سيدي بلال من وجود أمريكي عسكري متحرك ينتظر تسكينه فور استتباب ظروف التمكين ٬ يكون وبحسب محللين عسكريين ٬ قد اصبح من الطبيعي ان تكون اولى عواقب الاجتياح العسكري الأمريكي لغرب البلاد ٬ هي توجه واشنطن (وهو ما حدث فعلا) ٬ الى تشديد احكام سيطرتها و رقابتها على الحدود الغربية لليبيا ٬ وخاصة على طول الخط الحدودي الذي يمكنه ان يكون منفذا او مصدرا لتهديد مرتزقة واشنطن وقواتها المنتشرة او التي ستنشرها بمناطق الغرب الأقصى للبلاد. 

كما يرى نفس هؤلاء المحللين الاستراتيجيين العسكريين بان هذا التحول او الانتقال العسكري الأمريكي من وسط القارة الافريقية الى شمالها قد جاء مواتيا جدا للطموحات التوسعية الأمريكية  ٬ وذلك بسبب تقارب ظروف قاعدة الوطية الاستراتيجية و المناخية مع الاماكن التي طردوا منها. بل ان هؤلاء الخبراء يرون بان الوطية ٬ او البيت الجديد لمرتزقة واشنطن وجنودها سيكون افضل بكثير من ناحية شمولية السيطرة على الشمال والوسط الافريقي معا ٬ حيث ان موقع قاعدة الوطية ٬ والذي حدده واختاره الامريكيون بأنفسهم بأوائل اربعينيات القرن الماضي ٬ لن يجعل واشنطن تخسر اي امتيازات جيواستراتيجية عسكرية   كانت تقدمها لها النيجر ومناطق اخرى بإقليم الساحل والصحراء  ٬ فبحسب هؤلاء الخبراء ٬ فأن واشنطن لن تحتاج لأكثر من زيادة أهمية قواتها بغرب ليبيا عما كانت عليه بالعمق الافريقي ٬ وإعادة تشغيل اسطوانتها المشروخة للعالم بانها ستكون قوات لمكافحة الإرهاب ٬ لتكسب بهم ميزة كبيرة جديدة وهي تجاوز النفوذ العسكري لهذه القوات إقليم  دول الساحل والصحراء وحده ٬ ليشمل معه تشديد رقابتها وامتداد ذراعها العسكريين الى منطقتي شمال افريقيا وبحيرة المتوسط ايضا ٬ خاصة مع وجود دولتين وربما ثلاث بمنطقة شمال افريقيا  يعدون   من اهم حلفاء أمريكا العسكريين ٬ الى جانب وجود اخر مهم منهم  بكامل الإقليم الذي تسميه واشنطن بالشرق الأوسط.

كما كان من الطبيعي أيضا ٬ وبحسب نفس الخبراء ٬ ان تكون اولى مضاعفات وعواقب هذا الغزو على الليبيين ٬ هي اجبار واشنطن لحكومة طرابلس على اغلاق معبر راس جدير لاسباب سنشرحها بجزء مستقل من هذه المقالة ٬ وذلك رغم ما يمثله هذا المعبر من   شريان استراتيجي حيوي بالغ الأهمية لمصلحة قاعدة عريضة من الليبيين الذين يعيشون ظروفا صحية عصيبة ٬ جراء انهيار قطاع الصحة في البلاد نتيجة الإطاحة بالدولة الليبية واغراقها بالفوضي والعنف على يد الولايات المتحدة وحلفائها بالعام 2011 . بيد انه منذ متى كان الطغيان الأمريكي يملك كرم الالتفات الى مصالح غيره مهما كانت ملحة وحيوية ٬ حين تكون مصلحة ضمانه لأمن وسلامة مرتزقته وربما قواته المطرودة من النيجر وتشاد ٬ والذين تتوقع النيويورك تايمز زيادة  اعداد المطرودين منهم من دول افريقية اخرى ٬ تشغل بال طغاة واشنطن !؟

حيث انه لا احد منا  يعلم بعد ٬ ما اذا كانت واشنطن قد ابتلت التراب الليبي بقواتها المطرودة من افريقيا فعلا  ٬ ام انها ماتزال تنتظر انتهاء ترتيبات مرتزقة امنتيوم اللوجستية وبينها تأمين كامل الحدود الغربية الليبية ٬ قبل إتمام ابتلاء الليبيين  بهذا الوباء . بيد ان هذا التضور الأمريكي جوعا للسيطرة على كل ذرة تراب بمعبر راس جدير ٬ وعلى كل مليمتر من الاسلاك الشائكة للحدود الغربية ٬ انما يؤكد ودونما ادنى ذرة من شك ٬ بان هذه الواشنطن ٬ لئن لم تكن قد ابتلتنا بجنودها المطرودين من العمق الافريقي فعلا ٬ فلابد وانها  تعد لهذا حتما.

وعليه فان كل شواهد الواقع  انما تظهر اليوم ٬ بان ما جرى براس جدير لم يكن الا اولى مضاعفات تطور المواجهة الروسية الامريكية في ليبيا ٬ وان عملية الهجوم التي قامت بها قوات من حكومة  طرابلس على قوات اخرى تابعة لها أيضا برأس جدير ومن نفس بنية و جنس القوة المهاجمة  ٬ ليست الا فضيحة تنفيذ لأوامر امريكية بإغلاق المعبر ٬ وان الاغلاق سيستمر حتما حتى انتهاء البنتاغون مما اسمته حكومة طرابلس بتطوير البنى التحتية للمعبر ٬ والتي تعني انتهاء واشنطن من وضع بروتوكول تنظيم الحركة على الحدود ٬ وتحديد دور البنتاغون التوجيهي بضبطها ٬ وتجهيز المعبر وقاعدة الوطية ومراكز مراقبة أخرى بالمدن القريبة بتجهيزات ومعدات مراقبة متطورة ٬ الى جانب تجهيز قوة للتدخل السريع لاستخدامها عند الضرورة ٬ إضافة الى الانتهاء من وضع نطام الإجراءات والاليات ومعايير الانضباط و التأهيل الكادري لنظام الرصد والمراقبة للمعبر وكامل الحدود الغربية للبلاد المؤثرة بامن وسلامة المرتزقة و القوات الامريكية ٬ التي نشرتها واشنطن بالمنشآت الاستراتيجية العسكرية بغرب البلاد ٬ او التي تخطط لنشرها فيها .

ولعل ما يزيد من قوة حقيقة الاجتياح او الغزو الأمريكي هذا ٬ هو اقترانه بذيوع اربعة انباء توالت تباعا ٬ وهي  نبأ انكباب خبراء من البنتاغون على مراجعة بروتوكول مشاركة وزارة الدفاع الامريكية  سابقا بتأمين راس جدير والحدود التونسية الجزائرية جنبا الى جنب مع السلطات الأمنية الليبية ٬ والذي كانت ضالعة فيه فعلا منذ استقلال البلاد بديسمبر 1951 وحتى تاريخ طرد القوات الامريكية من ليبيا بيونيو 1970 . الى جانب نبأ  صدور اخبار متفرقة عن مواقع رصد للحركة الجوية افادت بوصول متتابع لطائرات شحن عسكريه تابعة للقوات الامريكية وللوكيل التركي الى قاعدة الوطية ٬ والتي اتفقت مصادر مختلفة ٬ على انها كانت تحمل معدات وتجهيزات وغرف مراقبه وتحكم متطورة لاستخدامها بالحماية الحدودية والرصد الدقيق للحدود الليبية الغربية ٬ الى جانب مراقبة تدفقات السلع والبشر عبر منفذ راس جدير. 

واما النبأ الثالث فهو خبر كشف مرافقين محليين عن قيام فريق فني كبير ومجهز من خبراء عسكريين امريكيين بمعاينة وتقييم جانب واسع من حدود البلاد الغربية . بينما كشف نبأ رابع (منقول عن اشخاص محليين أيضا كانوا جزء من مكان الاجتماع) عن لقاء جرى بين وفدين عسكريين امريكي وروسي بأحد مدن جنوب البلاد ٬ و بحضور فرنسي واخر لدولة عربيه ٬ للبحث بوضع قواعد للاشتباك بين قوات ومرتزقة كلا من واشنطن وموسكو وربما باريس أيضا ٬ التي لا تقل عنهما وجودا و خطورة على جنوب البلاد ٬ و هو ما سبق لموسكو وواشنطن وان فعلاه  بسوريا ٬ وذلك لتنظيم العلاقة العسكرية بين مرتزقة وقوات كلا منهما المنتشرة بالبلاد ٬ الى جانب تنظيم علاقات العبور العسكري الذي ستحتاجه حتما كلا منهما  بين ليبيا والعمق الافريقي والعكس .  

وعليه فان هجوم حكومة طرابلس (بقوة مسلحة) ٬ على (القوة المسلحة) التي تدير معبر راس جدير ٬ في الوقت الذي لا تختلف فيه القوتان (المهاجمة) و(المهجوم عليها) باي شيء يستحق الذكر حيال بنيتهما الامنية  ومصدر وطبيعة شرعيتهما ٬ ولاسباب بالغة البساطة ٬ وهي ان القوة المتمركزة براس جدير هي أيضا  قوة تعود تبعيتها الى حكومة الدبيبة بالاصل والاساس ٬ سواء بولائها ٬ او حتى بمواقفها من غرماء الدبيبة بشرق البلاد ٬ او بتبعيتها الإدارية لداخلية وجمارك وجوازات ومخابرات الدبيبة ٬ او بمصادر تلقيها للأوامر والتعليمات التسييرية ٬ او بمصادر تمويل رواتبها   ومعاشاتها ٬ او بهيكلها التسلسلي ٬ او بمصدر شرعيات تعييناتها بمواقعها الأمنية بالمعبر ٬ او برتبها وترقياتها ٬ او بطبيعة الاختام السيادية التي تستخدمها بتنظيم تنقل المسافرين ٬ او بإحالتها للمخالفات والمحاضر التي توجهها رأسا الى الدوائر القضائية التابعة للدبيبة . وهو ما يظهر ويؤكد حقيقة ان وصف الدبيبة ووزير داخليته فجأة لقوتهما المتمركزة بمعبر راس جدير ٬ بالمليشيا التي تنتهك السيادة والقانون ٬ انما هي ثرثرة  عقيمة لاخفاء حقيقة الأوامر الامريكية الصادرة باغلاق المعبر. 

بيد ان ما يزيد من سخرية انعدام علاقة دبيبة ووزير داخليته بما يجري بمعبر راس جدير ٬ وخاصة لجهة معرفتهما بموعد صدور أوامر واشنطن بإعادة فتحه ٬ هو جواب دبيبة المرتبك و الهلامي عن سؤال وجه له حول الموعد المتوقع لفتح المعبر ٬ الذي يفترض به انه يقع تحت سيادة وتشغيل حكومته ٬ وانه يشكل شريان فوق استراتيجي لالاف المرضى الليبيين ٬ بقوله (بان المعبر سيفتح حين يلبي المعايير الدولية للمعابر )!!

وكأن دبيبة مستهزئ بالمتلقين حد اعتقاده بانهم لا يعرفون بان كل معبر انما يستقي معايير تشغيله من ظروف الدولة التابع لها ومن قبول الدولة الشريكة بهذه الظروف  ٬ وليس من معجم معايير اعده حلف النيتو او الاتحاد الأوروبي سلفا لتلتزم به كل دولة صاحبة معبر !! صحيح ان لكل معبر حد ادنى من معايير ضمان امن كل دولة من الدولتين اللتين تقعان على جانبيه ٬ انما لا يوجد في العالم ابدا شيء اسمه المعايير الدولية لتشغيل المعابر !!

واما جواب وزير داخلية دبيبة للصحفيين بتونس عن نفس السؤال ٬ عقب لقاءه بالرئيس التونسي ٬ فكان اكثر تخبطا وبؤسا وضبابية ٬ حيث اخذ الرجل يلف ويدور حول الجواب حتى كاد ان يغمى عليه . ولعل هذا ما دفع عدد من الصحفيين الى اللجوء لي لاحقا لطلب تفسير لتخبط الوزير ٬ وهو ما لم اجد له من رد ٬ سوى تأكيد حقيقة ان السيد الوزير نفسه لا يعرف الجواب !!

ناصحا إياهم بالتوجه بسؤالهم هذا بحال كان يهمهم الجواب الى السفير الأمريكي ٬ خاصة وانه يعيش بينهم في تونس ٬ حيث انه هو فقط الذي يمكنهم ان يجدوا الجواب عنده !!

ولعل ما يضاعف من عمق سخرية ادعاء البحث عن السيادة والقانون بمعبر راس جدير ٬ هو ان هذا الاخير هو ثاني اثنين فقط من كل معابر ليبيا التي تسيطر عليها حكومة الوحدة ٬ الى جانب توازي وقت الهجوم على المعبر تقريبا ٬ مع موعدي اشتعال حربين ضاريتين بين قوات دبيبة نفسها . والتى اشتعلت اولاهما بمنطقة جندوبة بين جماعة جهاز الاستقرار وجماعة الشرطة القضائية ٬ واشتعلت  ثانيهما بمهاجمة مليشيا ثالثة تابعة لحكومة طرابلس أيضا وتتمركز بمدينة الزاوية تحت مسمى فرقة الاسناد ٬ لأهالي بلدتي الجميل ورقدالين ٬ وامعنت  فيهم قتلا وحرقا وتشريدا . واما ثالث هذا العار فما يزال دخانه ينبعث من مدينة الزاوية ٬ بعد ان أوقعت مواجهات بين مسلحين تابعين لحكومة دبيبة عشرات القتلى والجرحي ٬ وخلفت عشرات البيوت والمرافق المحروقة !!

يبدو ان معارك السيادة ... لا تخاض الا لاجل عيون واشنطن فقط !!

.. يتبع الجزء الثاني