عندما غادرت قريتي ومدينتي الصغيرة ( زليتن) لأول مرة في حياتي كان عمري حينها إحدى عشر عاما تقريبا، وكانت الرحلة صوب معرض طرابلس الدولي صحبة أخي الأكبر. اكتشفت حينها أن هناك مدناً أكبر من المدينة التي ولدت وعشت فيها، وشعرت أنني أصغر حجما مما كنت عليه في قريتي، وأن هناك عوالم آخرى عليّ اكتشافها.
سافرت للدراسات العليا في بريطانيا، كانت نقلة نوعية، حيث لندن تُعتبر أحد أكبر مراكز العالم الحديث. تعرفتُ فيها على مشاهير في الأدب والسياسة. فلندن تفتح أمامك شهوة التعلم، زرت المتاحف والجامعات الكبرى والشوارع الخلفية للمدينة وصخبها، موانئ الصيد والريف الانجليزي، وبنيت صداقات خاصة مع الاسكتلنديين ( بدو بريطانيا الظرفاء).
اليوم وأنا أتجول بين عواصم العالم، وقد زرت أكثر من أربعين بلدا: لندن، نيويورك، باريس، بكين، دبي، برلين، كوبنهاجن، مدريد ... الخ، أشعر أن مقام جدي الصوفي الأشهر الإمام عبدالسلام الأسمر الفيتوري، بالنسبة لي أهم من كل عواصم العالم ومدنه.... زليتن مثوى ألف ولي و ولي. الولي السلطان وسلطان الأولياء . قال جلال الدين الرومي: الفيل عندما ينام دائما يحلم بأرض الهند .
لقد قادني خروجي الصغير من القرية إلى المدينة، إلى السفر الكبير حيث يتحول فعل الدهشة إلى اكتشاف بقية العواصم والمدن الكبرى . لكن السفر البعيد والتطواف الطويل قادني إلى اكتشاف آخر أهم وأعظم حيث السفر في الذات واكتشاف فراغ الامتلاء .... وعندما ينتهي بك المطاف وترجع ﻷرض الوطن، ستشعر حتما بأنك كنت تتجول في عالم صغير، حجمه الكبير لا يضاهي حجم أصغر ذرة من تراب أرض داستها قدماك عندما خطت أولى خطواتها، وأن الوطن هو أديم الجد والأب والأم والإخوة وروحهم المباركة الذين دفنوا فيه وصنعوا ترابه.
تبدأ تلك الرحلة المتعبة حول عواصم العالم وتعود ضعيفا صغيرا كما غادرت. فأنت تزداد بالإشباع جوعا وبالماء عطشا. وتكتشف إن مرافئ الوصول هي نفسها موانئ العودة. تعلمت أن أقبل الأشياء كما هي ولا أحاول أن أغيرها، خاصة إذا كانت لا تخصنا. عرفتُ أن أطيب الأكل هو أكل الفقراء، وخلصت إلى أن أفضل حديثاً هو حديث الأطفال والطاعنين في السن، ربما لأنهم لا يتعلقون بحطام الدنيا... وأيقنتُ أن أفضل نوماً هو النوم على الأرض، وبالتأكيد الأكثر راحة تحتها في أرض الولي. فثمة حبل سري لاينقطع يشدنا إلى الرحم والأم "الوطن" وأن ولدنا ومشينا وتعثرنا وركضنا، إن أبحرنا وإن طرنا عاليا يظل يشدنا إليه، وثمة بذرة تزرع في أرواحنا منذ صرختنا الأولى تكبر داخلنا وطنا وأن غادرناه ولا يغادرنا. وإن كنت لا تعيش فيه، فالوطن يعيش فينا. سيبقى الوطن غاليا نفيسا ومهما علا شأنك ستبقى أصغر من ذرة تراب في غبار الوطن.