مصطفى حفيظ

لم ينهِ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عهدته الرئاسية كما بدأها فيما يخص الجزائر، فعلى مدار خمس سنوات من رئاسته لفرنسا، لم ينجح في إقامة علاقات جيدة معها، مع أنه كان قد بدأ بمغازلتها عندما زارها في 2017 كمرشح للرئاسيات، فوقتها أبدى استعداده لمعالجة ملف الذاكرة بما يخدم مستقبل البلدين، ووعد بتقديم اعتذار عن جرائم الاستعمار طيلة 132، لكن لم تكن عهدته قد انتهت بعد عندما شككّ أواخر 2021 في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، واليوم، ونحن على أعتاب الانتخابات الرئاسية، لا يتضح من سيكون الرئيس المقبل لفرنسا، ولا كيف سيتكون العلاقات مع الجزائر، في حال وصول مترشح من اليمين المتطرف. 

عندما قال قبل خمس سنوات خلال زيارته للجزائر كمرشح للرئاسيات بأنّ "الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي. إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نوجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات"، جوبه بكثير من الانتقادات والاستنكار خاصة من اليمين واليمين المتطرف في فرنسا، ربما كان وقتها يريد حقا وضع لمسته الخاصة لمعالجة ملف الذاكرة مع الجزائر لتسجيل تقدم ملحوظ في العلاقات الفرنسية الجزائرية، لكنه أفسد الأمر في آخر أيام عهدته عندما شكك في تاريخ الجزائر وقال بأنها أمة لم يكن لها وجود قبل احتلالها من قِبل فرنسا، ومن المعروف على السياسيين أنهم يطلقون وعودا انتخابية لا تتحقق في الواقع، وذلك ما اتضح طيلة فترته الانتخابية، فلحد الساعة، لم ينجح في دفع العلاقات بين البلدين إلى مرحلة متقدمة من التفاهم التاريخي والشراكة الحقيقية، والدليل أنها خسرت الكثير من الاستثمارات في الجزائر في مقابل تركيا والصين. حاول ماكرون أن يعالج ملف الذاكرة بطريقته، لكن الملف الذي كلف المؤرخ الفرنسي ذو الأصول الجزائرية بن يامين ستورا بإعداده عن الذاكرة لم يعجب الجزائر لأنه لم يحتوي على تلك الوعود التي كان قد قطعها، وهي تقديم اعتذار رسمي عن جرائم فرنسا الاستعمارية.

وعلى ما يبدو، لن يتغير في الأمر شيء، سواء فاز ماكرون بولاية ثانية أم لا، لأن الواقع يثبت بأن فرنسا الرسمية لا تملك إرادة سياسية في حل ملف الذاكرة، لأن ماكرون قدم اعتذارات للحركى والأقدام السوداء على سوء معاملتهم بعد تاريخ 19 مارس 1962، لكن لم يأتِ على لسان الرئيس الفرنسي كلمة اعتذار للجزائر عن جرائم فرنسا الاستعمارية، لذلك لا يبدو أن ملف الذاكرة بين فرنسا والجزائر سيعرف طريقه إلى الحلّ قريبا، فبمجرد حلول ذكرى 19 مارس 1962، التي تعني بالنسبة للجزائر عيدا للنصر على الاستعمار الفرنسي بعد ثورة دامت سبعة سنوات، وبالنسبة لفرنسا هو يوما للذكرى، عاد ملف الذاكرة ليخيم من جديد على مستقبل العلاقات بين البلدين، فلا فرنسا تريد أن تقدم اعتذارا رسميا عن جرائمها في الجزائر، ولا الجزائر تريد أن تتنازل عن حقها. 

ولم يشهد هذا الملف منذ أن قدم المؤرخ الفرنسي بن يامين ستورا تقريره حول ملف الذاكرة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جانفي الماضي، أي تقدّم على أرض الواقع بين فرنسا التي استعمرت الجزائر في 1830 حتى 1962، والجزائر التي عاشت تحت نير هذا الاستعمار لمدة 132 سنة ثم نالت استقلالها بعد ثورة مسلحة دامت سبع سنوات من 1954 إلى 1962، في الواقع، هناك بعض المعوّقات التي حالت دون تحقيق أي نتيجة في هذا الملف والتي من شأنها أن تعيد العلاقات الجزائرية-الفرنسية إلى طبيعتها، أهم هذه المعوقات هي النقاط التي تطرحها فرنسا في كل مرة يُطرح الملف للنقاش مع الطرف الجزائري، بالأخص المسائل التي يبدو أنها لن تعرف طريقها إلى الحل، على الأقل على المدى القريب، كمسألة عودة المستوطنون الفرنسيون والحركى إلى الجزائر وأملاكهم التي تركوها قبل مغادرتهم الجزائر بعد الاستقلال، ومسألة تسليم فرنسا للأرشيف الذي يخص تاريخ الجزائر منذ احتلالها حتى استقلالها، وقضية ضحايا التجارب النووية في الصحراء الجزائرية بين سنوات 1960 و1966، ومصير المفقودين خلال الثورة بين 1954 و1962. 

والأكيد أن ماكرون سيحاول إعادة طرح الملف من جديد في حال فوزه بولاية رئاسية ثانية، لكن لا يُعرف ما إذا كان قادرا أن يقدم تنازلات في صالح الجزائر خدمة لملف الذاكرة، أم سيخضع لحسابات اللوبيات التي تضغط في الإليزيه من أجل منع تقديم أي اعتذار. فبالنظر لما فعله مؤخرا غداة بدأ الحملة الانتخابية، من تكريم للحركى واعتذاره لهم، ثم الاعتذار للأقدام السوداء على جريمة قام بها الجيش الفرنسي في حقهم في الجزائر، يتضح أن ملف الذاكرة الذي لم يُعجب الجزائر في بعض نقاطه، سيبقى على حاله من حيث تلك الشروط التي تعرضها فرنسا على الجزائر كحق عودة الحركى وأبناءهم، وممتلكات الأقدام السوداء التي تركوها بعد 1962، لكن ماذا لو فاز مرشح يميني كإريك زمور مثلا؟ 

نحن نعرف جيدا كيف يفكر زمور، الفرنسي المنحدر من أصل يهودي جزائري، فهو لا يعترف بملف الذاكرة، ويبارك الاستعمار وينفي وجود أمة جزائرية قبل احتلاها من طرف فرنسا، وقال ذلك صراحة في احدى خطاباته في الحملة الانتخابية: "إذا كنا قد استعمرنا الجزائر لمدة 130 عاما، فنحن لسنا الأوائل. فالجزائر كانت دائما أرض استعمار من قبل الرومان والعرب والأتراك والإسبان"، وأبدى استعداده لإقامة علاقات شراكة مع الجزائر دون تقديم اعتذار عن ماضي فرنسا وجرائمها في الجزائر، لكن زمور يهدد العلاقات القائمة أساسا منذ 1962 بين البلدين على أساس اتفاقية ايفيان، واتفاقية 1968 التي تسهل عمل وإقامة المهاجرين الجزائريين، وهدد المرشح اليميني لإلغائها، وقد يهدد ذلك مصير العديد من المهاجرين، ويبدو أن العلاقات الجزائرية الفرنسية ستعرف المزيد من التوتر في حال فوز هذا المرشح اليميني. 

لا تريد الجزائر التنازل عن حقها في المطالبة باعتذار فرنسا عن جرائمها واحتلالها مدة 132 سنة، وتقديم تعويضات للضحايا وضحايا التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، حتى أن الرئيس الحالي تبون عبّر عن ذلك صراحة مؤخرا في ذكرى عيد النصر عندما قال بأن "جرائم الاستعمار الفرنسي لن تسقط بالتقادم." ما يعني أن الجزائر لن تتخلى عن مطالبها في معالجة منصفة ونزيهة لملف الذاكرة من أجل المضي قدما نحو أي شراكة مبنية على مصالح مشتركة بين البلدين، وهذا ما قد لا يتحقق، على الأقل على المدى القريب، بما أن فرنسا الرسمية لا تبدي أي نية في دفع هذا الملف إلى مرحلة متقدمة من التفاهم، ولا يُعول كثيرا على من سيكون رئيسا لفرنسا لحل النقاط العالقة بسبب هذا الملف الشائك.