مصطفى حفيظ

لجأت الحكومة الجزائرية مع بداية السنة الحالية إلى فرض ضرائب ورسوم مبالغ فيها على بعض السلع والمنتجات والأجهزة الالكترونية، لكن سرعان ما تراجعت عنها مُعلنة زيادات في الأجور ومنح للبطالين وبعض الإجراءات الأخرى، وهي خطوة استباقية ضدّ أي توتر شعبي قد ينجم عن غلاء المعيشة بسبب ارتفاع تكلفة الغذاء في العالم وانعكاساتها على الداخل الجزائري، لكن هل يعني ذلك أن السلطة نجحت في اخماد "ثورة الجوع" قبل اندلاعها؟ وهل نجحت في شراء السلم الاجتماعي؟ وكم ستصمد سياسة الدعم في وجه غلاء الغذاء العالمي؟

أن تنجح حكومة ما في تفادي "ثورة الجياع"، فهذه هي المهمة الصعبة، فمنذ أن غزت كورونا العالم ارتفعت تكلفة الغذاء، وانعكس ذلك على اقتصادات الدول المعتمدة على استيراد المواد الأولية كالجزائر مثلا، فبين 2021 وبداية العام الجاري 2022، عرفت أسعار السلع والمواد الغذائية ارتفاعا جنونيا، وانتشر الخوف من الجوع وسط الشعب، ومع نسبة التضخم المرتفعة واعتماد الاقتصاد الجزائري على الريع البترولي بالدرجة الأولى، واستفحال ظاهرة البطالة وسط حاملي الشهادات بالأخص، ولعل السلطة في الجزائر فهمت بأنّ أي حسابات خاطئة وغير مدروسة العواقب بخصوص فرض زيادات في أسعار المواد الاستهلاكية، أو الرفع من نسبة الضرائب والرسوم على السلع والمنتجات والصادرات، قد تنجم عنه نتائج عكسية تؤثّر على السلم الاجتماعي في البلاد، خاصة وأن الجزائر عاشت توترات سياسية وشعبية منذ اندلاع ما يسمى "الحراك الشعبي" في 2019.

صحيح أن التراجع عن فرض الضرائب التي أدرجت في قانون الميزانية العامة لسنة 2022 بقرار من مجلس الوزراء هو خطوة جيدة وتساهم في ربح السلطة للسلم الاجتماعي من جهة، لكنه يبقى ناقصا بدليل أن مخاوف المواطن من ضعف القدرة الشرائية بسبب ارتفاع الأسعار ما تزال قائمة، فالقرارات التي اتخذها الرئيس تبون خلال اجتماع لمجلس الوزراء، منها قرار تجميد كل الضرائب والرسوم، لا سيما الرسوم على بعض المواد الغذائية، جاءت بعد ارتفاع في أسعار المواد الغذائية بشكل فاق كل التوقعات، وتسبب في بداية العام الحالي في أزمة زيت المائدة، والتي بدأت حتى قبل تطبيق الرسوم الجديدة التي أقرها القانون، وأحس المواطن بزيادات غير مبررة في معظم المواد الاستهلاكية فور الشروع في تطبيق الضرائب والرسوم الجديدة.

ويبدو أن الإعلان عن زيادات مرتقبة في أجور العمال ومعاشات المتقاعدين وصرف منح للبطالين من فئة حملة الشهادات الجامعية ومراكز التكوين المهني، هي خطوات لجأت إليها السلطة لتفادي عودة الاحتجاجات إلى الواجهة، مع العلم أن ما يُسمى "الحراك الشعبي" الذي نجحت في اخماده منتصف 2021 بعد أن استمر على مدار عامين (فبراير 2019-مايو 2021)، أي منذ اندلاع موجة الاحتجاجات الرافضة لعهدة خامسة للرئيس الراحل بوتفليقة، مرورا بالمسيرات الشعبية كل يوم جمعة، ورفع المتظاهرين لشعارات تحمل مطالب سياسية واجتماعية، طبعا كانت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم، إحدى أسباب توقف "الحراك" في الجزائر، ثم نجاح السلطة في تحييده ثم انهاءه بقوانين تتعلق بالأمن العام بعد اختراقه من حركات تعتبر حاليا إرهابية، وهي كل من حركة رشاد وحركة ماك.

لقد لاحظ الجزائريون كيف ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية تصاعديا، ولم تتراجع بل استمرت في الارتفاع موازاة مع ارتفاع تكلفة الغذاء العالمي، ربما كانت كورونا أكبر الأسباب، لكن الاقتصاد العالمي تغيّر بدرجة كبيرة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أثّر على الجزائر أيضا، لكن برغم سياسة الدعم التي تنتهجها الحكومة الجزائرية منذ سنوات، إلاّ أن ضعف القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المجتمع الجزائري جعلت الأمر يزداد سوء، ودقّت جمعيات حماية المستهلك والنقابات العمالية ناقوس الخطر، وحتى البرلمان الجزائري ادرج الوضع الاجتماعي ضمن أجندة أولوياته، وكون لجنة مهمتها تقصّي أسباب الارتفاع الجنوني للأسعار سواء بالنسبة للمواد الاستهلاكية أو حتى الفلاحية، لكن خبراء الاقتصاد كانت لهم نظرة أخرى، وهي تحذير الحكومة من سياسة رفع الأجور ومعاشات المتقاعدين لأن ذلك حسب البعض منهم يضّر بميزانية الدولة، وأن سياسة الدعم المتّبعة تضرّ بالاقتصاد الوطني، بحيث أن الدولة تضطر لتحمّل فارق التكلفة المرتفعة للمواد الأولية في السوق العالمية، القمح وبودرة الحليب والمواد المستعملة في صناعة المواد الغذائية، لكن يبدو أن الحكومة ماضية في سياستها لشراء السلم الاجتماعي ولو على حساب الاقتصاد الوطني، فهل يمكنها التحمل أكثر؟

برغم العبء المالي الذي ينجم عن هذه السياسة، إلا أن الحكومة تصرّ على مواصلة دعم المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، بالأخص القمح وبودرة الحليب، وهما مادتان ارتفعت تكلفتهما في السوق العالمية بنسب كبيرة، وتأخذ الحكومة على عاتقها فارق السعر الحقيقي لهذه المواد، لكن إلى أي مدى تُعد هذه السياسة ناجحة إذا علمنا بأنّها تكلّف خزينة الدولة مليارات الدولارات سنويا؟ ثم من يستفيد من هذا الدعم إذا كان أصحاب المقاهي ومخابز الحلويات مثلا تستفيد هي الأخرى من المنتجات المدعّمة؟ لعل الخطأ الذي لم تتداركه الحكومة بعد هو عدم مراجعتها لسياسة الدعم من حيث من يجب أن يستفيد من هذا الدعم باستثناء الفئات الاجتماعية الهشّة وضعيفة الدخل، فالدولة تسخّر 17 مليار دولار في ميزانية الدعم لكن لا تستفيد منها كل العائلات الجزائرية على حد قول رئيس جمعية حماية المستهلك الجزائرية.

الأكيد أن الحكومة تريد أن تتفادى بكل الطرق أي غضب شعبي بسبب غلاء المعيشة، أو بعبارة أدّق اخماد "ثورة الجياع" قبل اندلاعها، لكن هل تكفي إجراءات الغاء الضرائب والرسوم من تراجع الأسعار؟ وهل تكفي الزيادات في الأجور ومعاشات المتقاعدين في رفع القدرة الشرائية لأغلب المواطنين؟ فحجم البطالة في ارتفاع منذ سياسة التقشف التي طبّقتها حكومات منظومة حكم بوتفليقة السابقة، فضعف الاقتصاد الوطني وقلة الاستثمار الأجنبي والمحلي، ونسب التضخم وتدني قيمة العملة المحلية، حال دون خلق مناصب شغل تغطي الطلب المتزايد، لذلك، لا يمكن الجزم بأن السلطة نجحت في شراء السلم الاجتماعي، لأن الظروف المعيشية لم تتحسن بعد والأسعار ما تزال في ارتفاع، فكم ستصمد سياسة الدعم في الجزائر في وجه غلاء الغذاء العالمي؟