برهان هلّاك

تستعد القوات الأمريكية للإنسحاب التام من الأراضي الأفغانية في 31 أوت 2021، و هو إنسحاب جاء على إثر عشرين سنة من الحرص على ألا تكون أفغانستان منصة إطلاق لضربات إرهابية تهدد الولايات المتحدة الأمريكية بحسب ما برّر به الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش، التدخل العسكري في ذلك البلد القصي. و تنطلق حركة طالبان الإسلامية في مسار إحكام قبضتها على السلطة في أفعانستان، في وقت تعاني فيه الحركات الإسلامية في المغرب العربي) تونس بالأخص( من محنة لها فقهها و سبل مواجهتها حسبما تقره أدبياتها و سياساتها الداخلية. و أما عن الدافع وراء خط هذه السطور فهو ما يثيره إستمرار تواجد هذه الحركات الإسلامية من إهتمام في علاقة بعيشها على نقيض " محاور شر " تصنعها و تحددها بدقة إيديولوجية و حرفة إعلامية كبيرتين. وتمسح الحركات الإسلامية في محاور الشر تلك إخفاقاتها و عجزها عن التعبئة إلا من جهة إثارة الرعب من الفناء نتيجة لتآمر " قوى الشر " على هذه الحركات و على الإسلام الذي يعلنون أنه في خطر بإعتبار أنهم، حماته و ناصروه الأوحدون، في خطر داهم.

و تبنى الملصقات الإسمية في العلاقات الدولية، و لعبة الأمم بصفة عامة، من قبيل " محور الشر " و " إمبراطورية الشر"  على كنايات تستمد رمزيتها من أخلاقوية زائفة و تمثل للعالم على المنهاج المانوي (الخير في مقابل الشر أساسا ) . كما تنطوي على مغالطات فادحة فيما يتعلق بإجرائيتها ( إطلاق الولايات المتحدة، الداعمة للحركات الإسلامية، صفة إمبراطورية الشر على غريمها الإتحاد السوفياتي سابقا كان مناورة لطمس حقيقة أن الوضع الإجتماعي في المعسكر الشرقي الاشتراكي كان مترفا إلى حد ما حتى ما قبل الحرب الباردة، في حين تعاظم سخط النقابات العمالية في آخر الأربعينات من تدني الأجور و الفاقة التي يعانيها العمال و الفساد الذي طال صناديق التقاعد و التغطية الصحية). و أما حركة طالبان الإسلامية في أفغانستان فقد واجهت الغزو الأمريكي للبلاد بما يضمن تجدّد تواجدها السياسي الدوري عبر المراحل التاريخية و إستمرارية الحركة و أجهزتها الإيديولوجية و العسكرية في الآن ذاته؛ ففي الوقت الذي اعتبرت فيه أمريكا طالبان محورا للشر، قاومت الحركة هذا الزعم بإعلانات مضادة نصّبت من خلالها أمريكا، و الديمقراطيات الغربية الكافرة إجمالا، " شيطانا أكبر"  و حاربتها طويلا. بل و نظّرت لوجود أمريكا كنقيض لما يقوم عليه العالم الإسلامي و قيمه الراسخة في الدين و الإيمان المسدّد للحياة عن طريق تعاليم الشريعة. و عندما انبرت الولايات المتحدة الأمريكية  لـ" اختيار " نقيض سياسي آخر، كان عراق صدام حسين و من بعده أسامة بن لادن في تنويع لصيغ التناقض من دول لجماعات و أفراد ذوي كاريزما و رمزية قيادية، انتهى المطاف بإعلان الدولة الاسلامية مجسدا لإمبراطورية شريرة. و هو ما يعتبره البعض سمة مشتركة للولايات المتحدة الأمريكية مع الإمبراطورية الرومانية، باعتبارها سليلتها و تمظهرها التاريخي الحديث كجيل رابع من الإمبراطوريات. و هو ما يسميه الصافي سعيد بعودة الزمن الامبراطوري، اذ كان عداء الإمبراطورية الرومانية للبرابرة شرطا لاستمرار وجودها

و من الطرف القاتمة أن المسؤولين عن اغتيال أحمد شاه مسعود، الإسلامي الأفغاني " المتنوّر " و المنحاز لقيم الغرب في الديمقراطيّة والليبيرالية والحريّة، هما تونسيان كانا على يقين جازم بأن الرجل هو أحد أذرع الديمقراطيات الغربية الكافرة الشريرة و المتآمرة على الإسلام و تطبيق شرع الله. بلى، في تونس حركة إسلامية تتشارك مرجعيات واحدة مع حركة طالبان، بما في ذلك العيش على نقيض إمبراطوريات الشر المتربصة بهم و التي تعرقل جهودهم في " النهوض و البناء ".

فمنذ أن تولت حركة النهضة الإسلامية الحكم في سنة 2011، ما فتئ قياديون في الحركة يطالعوننا بتلميح و تصريح و إشارة لمحاور الشر اللاديمقراطي المطلق، و امبراطوريات من الأزلام و المتنفذين ماليا و اقتصاديا من المتحالفين مع رموز النظام السابق،وصولا للدولة العميقة المعادية للتغيير السياسي و المفارق في الأمر كله أنهم تحالفوا معهم بعد ذلك عملا بالمقولة الأمريكية " إن لم تستطع التغلب عليم، فعليك بالانضمام لهم "). كما تم إعلان بعض صفحات التواصل الإجتماعي غرفا للمنافقين و الكفرة يدبّرون فيها الأمور بالليل، ليتم السعي إلى " مقاومة " هذه الأصوات بأيادي تنتمي للتنظيم العالمي للإخوان ( إحدى الشخصيات المكلفة من قبل إدارة فيسبوك بالإشراف على مطابقة المحتوى للمعايير بمنطقة الشرق الأوسط و شمال افريقيا هما خالد قوبعة، و هو صديق شخصي مقرب من راشد الغنوشي، و توكل كرمان إخوانية الهوى و الهواية و العاملة بلجنة حكماء " فيسبوك ").

كما اعتبروا أن بعض الوجوه السياسية البارزة في معارضتهم، بدءً بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي و وصولا لعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، أشرار مدعومون من قبل أحلاف تخريب الديمقراطية الناشئة الإماراتية و السعودية. بل و امتد بهم جنون الإرتياب إلى معاداة رئيس الجمهورية المصرية، عبد الفتاح السيسي، الذي اعتبروه سفاحا سيقطف رؤوس الإسلاميين في بلد غير بلده!

و في نهاية المطاف، بلغ الرئيس التونسي الحالي، قيس سعيد، سدّة الحكم، و صار تكثيفا لمعاني الشر و التآمر على نبل مساعيهم للموائمة بين الإسلام و الديمقراطية بمجرد أن عارض ما يسيرون فيه من تدمير للحياة التونسية؛ أ لم يعتبروا أن قيس سعيد هو رئيس لجمهورية الخوف من الثورة و التحرر و الديمقراطية و راع أول للإستبداد بالسلطة، و أنه لا يتوافر على نوايا حسنة لبناء مؤسسات ديمقراطية أو قبول وجهات النظر المعارضة؟

فهم لا ينظرون لما فعلوه من بشاعات على أنها انتفاء لصفة الخير على الإمبراطورية الإخوانية و انتقال بخطى ثابتة نحو أن تصير إمبراطورية للشر. و ذلك هو مسار اِسْتُنْفِذَ على آخره، و كان أن آل الأمر إلى بروز رئيس للجمهورية التونسية على أعلى هرم السلطة و يعادي إمبراطورية الإخوان باعتبار أن ذلك تأسيس لشرط وجوده السياسي.

تعلّمنا " حنّا أرنت " أنّ الحقيقة لا سياسيّة، بل لعلّها مضادّة للسّياسة. و من هذا المنطلق، لا يكون للخير أو الشر، بما هي معياريات أخلاقية متعالية عن قذارات و اعتبارات التطبيق على أرض الواقع، أي إمكان للحضور في علاقة بالسلطة و الحكم.

و إنّ بروباغاندات الدّعاية السياسية للإسلاميين بمختلف جنسياتهم، الكارهين لها، و إدغامهم للخير و الشر في مستنقعات الهيمنة والتسلط بإسم المتعاليات الدينية ينطوي على احتقار ثنائي للحقيقة و للجماهير الشعبيّة ( التي لا يرونها إلّا باعتبارها " كثرة أو لفيفا متجمهرا " للغلبة و التمكين )؛ تُوظَّفُ بروباغاندات التخويف من محور الشر المتربص بالإسلام السياسي خدمة للتعبئة الانتخابية وإعلانا للنفير العام إذا ما اقتضت الأوضاع ضغطا قاعديّا يرجح كفّتهم في أزمنة انكشاف خدعهم و مؤامراتهم.