برهان هلّاك

أزهقت روح فتاة تبلغ من العمر 18 سنة مساء يوم الأحد 10 أفريل 2022 بعد أن أقدم أحد الأشخاص على محاولة نشل حقيبتها أثناء سير قطار بالعاصمة تونس، وبالتحديد بمنطقة بئر الباي من محافظة بن عروس؛ أدّت محاولة السارق اقتناص حقيبتها إلى سقوطها ووفاتها نتيجة لتعرّضها للدّهس تحت عجلات القطار المنطلق... أمام أعين أمها التي شاهدت روح ابنتها تغادر جسدها الفتي على حديد سكة القطار البارد نتيجة لرغبات مرضية في التملك المادي على حساب ممتلكات وحرمة الغير الجسدية. ومن المؤكد أن الأم المكلومة ليست الوحيدة التي ستعيش مكرهة على وقع هذا الجرح النفسي الغائر، فقد كانت تلك حال العديد من أمهات و عائلات ضحايا آخرين لعمليات النشل والسطو العنيفة تلك؛ يعايش التونسيون منذ سنوات اجتياح عمليات السطو (ما يتداول على تسميته في تونس بـ "البراكاج") للأماكن العامة ووسائل النقل العامة، إلى درجة أن بعض المحامين كانوا قد أعلنوا، في مطلع سنة 2020، عن رفضهم الدفاع عن الضالعين في هذا النوع من الجريمة!

لقد استحالت عربات "المترو الخفيف" والقطارات والحافلات بالعاصمة تونس تحديدا قبلة للمنحرفين والمتحرشين، وصارت مسرحا للسرقة والنهب والسطو والتحرّش؛ بحسب التقرير السنوي حول العنف الذي نشره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2020، تصدّر العنف الإجرامي المركز الأول في قائمة الجرائم بنسبة 36.3%. وكانت العاصمة التونسية على رأس المحافظات الأكثر عنفا بـنسبة قُدّرت بـ 13.42%. كما أشارت دراسة أنجزتها منظمة "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" لسنة 2021 إلى أن شهر نوفمبر من نفس السنة قد عرف تطوراً ملحوظاً في منسوب العنف الفردي الذي بلغت نسبته 62.5 في المئة من حجم العنف، مقابل 48 في المئة خلال شهر أكتوبر2021. بينما تراجع العنف في شكله الجماعي إلى حدود الـ35.7 في المئة. وحافظ العنف في شكله الإجرامي على المرتبة الأولى في سلّم العنف المرصود حسب ما تشرحه الدراسة، وذلك على غرار السنوات الماضية، حيث بلغت نسبة هذا النوع من العنف ما يقارب 70.8 في المئة من إجمالي عمليات العنف المسجلة، يليه في ذلك العنف المؤسساتي الذي كان في حدود الـ12.5 في المئة، وليحتل المرتبة ثالثة العنف الاقتصادي الذي يمثّل نسبة 10.4 في المئة من المجموع العام.

إن مثل جرائم النشل هذه التي عرفناها في كل فصول السنة في تونس، بل وألفنا رؤية مرتكبيها على دراجاتهم في شوارعنا وأزقتنا، قد انتعشت منذ بداية استفحال شتى أنواع الأزمات في تونس؛ إن انسحاب الكل عن تأطير وتأمين وافتكاك الشوارع من النزعات الإنحرافية التي عمتها هو علة كل هذا النهب والسطو الذي صار دمويا في كثير من الأحيان. لقد بات التونسيون يخشون على محتوى حافظاتهم وحقائبهم، إن كان لا يزال لديها فيها ما يحملونه. بل وصاروا يخشون على أرواحهم أيضا إلى درجة أنهم لم يعودوا يلقون بالا لممتلكاتهم، فما داموا لن يغادروا الشارع إلا من منقوصين من غرض ما، فهم يفضلون الآن أن يكون الغرض المفقود أموالهم لا حيواتهم.

إن الانسحاب من أداء الدور المحوري في حماية الشارع من افتكاكه من قبل النشالين والذين يمارسون السطو يشمل بالأساس الدولة وأجهزتها الرادعة، والتي من المفترض أن تنهي بموجب العقد الاجتماعي حالة حرب الكل ضد الكل؛ يؤشر ارتفاع وتواتر الجرائم من عمليات السطو في الأماكن العامة وخاصة في وسائل النقل العمومي إلى حالة من عدم الانضباط للقانون، وربما عن تغيرات اجتماعية مرتبطة بضعف الدولة واستحالة علاقة التونسيين، أو بعضهم على الأقل، بها إلى نوع من النقمة الاجتماعية على الأوضاع والانسداد في الأفق. وترى الباحثة التونسية بعلم الاجتماع، فتحية السعيدي، أن ما يحدث اليوم مرتبط بتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحالة الانسداد السياسي التي انعكست سلبا على أداء كل الإدارات، مما يعطي انطباعا عن غياب للدولة وللردع. كما تبين أن ذلك ما يجعل الفضاء العمومي فضاء مستباحا من كل المارقين على القانون؛ من هذا المنطلق، يمكن القول أن تونس قد ولجت منذ مدة ليست بالقصيرة مرحلة جديدة سمتها الأساسية العنف المنظم من قبل جماعات ابتغِيَ لها أن تكون هامشية. وهي جماعات خلقت مجتمعا موازيا وبدأت تتشكل وتتكون نتيجة طبيعية للبطالة والتهميش مقابل انعدام سياسات عمومية تتجه لاشتغال حقيقي على فضاءات هامشية، تسميتها بالهامشية وحدها كفيلة بفهم بعض من عنفها وانعدام الاعتيادية في سلوكيات أفرادها.

يقول الباحث الاجتماعي سامي نصر أن الارتفاع المهول في نسب السرقة بواسطة العنف يمكن أن يكون مرجعه عوامل متعددة، مبينا أن الجريمة في تونس قد مرت من مرحلة الظاهرة الاجتماعية لمرحلة الثقافة العنيفة وهي من أخطر المراحل التي يمكن لأي مجتمع أن يعيشها.

فعندما تمرّ الجريمة من الظاهرة الاجتماعية إلى مستوى الثقافة، فإنه بغض النظر عمّا تم اتخاذه من اجراءات من السلطات الأمنية والقضائية فإنه لا يمكن معالجة هذه الآفة. ويمكن القول من خلال اعتماد ما سبق أنه، وعلى عكس ما يدرج اعتقاده، فإن الدولة ليست مطالبة بمزيد تشديد التعامل الأمني مع مقترفي جرائم السرقة المسلحة هذه، بل إن عليها أن تتخذ خطوات في معالجة المشكل بشكل أكثر فعالية من جانب العمل على القضاء على شرط إمكان التطبيع مع الممارسات العنيفة بالأساس؛ إن حجم الانفلات والتسيّب والفوضى الذي آل إليه المجتمع التونسي بعد الثورة، خاصة بسبب اصطدام جزء كبير من التونسيين بخيبة أمل نتيجة الوعود السياسية الزائفة، لهو مرجع العديد من الشرور التي تهدد أمن التونسيين وحقهم في الطمأنينة والعيش بدون مخاوف على سلامتهم الجسدية وممتلكاتهم.

سيكونُ من التسطيح بمكانٍ ردّ هذا الانحراف السلوكي العنيف إلى العامل الاقتصادي وحدهُ، فإن كان صحيحا أن الأزمات الاقتصادية غالبا ما تتزامنُ مع ارتفاع معدلات الجريمة، العشوائية منها أو المنظمة، فإن الواقع يقولُ إنّ حالة الارتباك السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، التي تعيشها تونس منذ عام 2011، ساهمت في هشاشة البنية القيمية الأخلاقية العامة للمجتمع التونسي. فعلاوةً على العاملين المعتادين المتمثلين في الأزمة الاقتصادية وتراجع دور المنظومة القيمية، بات سلوكُ الافلاتُ من العقاب الممارسُ سياسيًّا عاملا محفّزا لسلوك الاستهتار بالجريمة.

زينب، الفتاة ضحيّة عملية السطو بالقطار التي سلف ذكرها، هي مشهد أخر في شريط صور العنف والسرقة المسلحة، وهي ضحية أخرى من ضحايا مثل هذه العمليات الإجرامية التي تتحول في كثير من الأحيان إلى عمليات قتل. إنها قطعا ليست الضحية الأولى، وللأسف فإنها حتما لن تكون آخر الضحايا؛ إن الألم والفظاعة والحنق الناجم عن هذا الحادث الدموي الأليم يجعل من استحضارنا لحوادث كثيرة مماثلة أمرا مفهوما. لقد تكرّرت في السنوات الأخيرة جرائم القتل بدافع النهب والسطو، وباتت مثيلة هذه الجرائم أبرز ما يقض مضجع التونسيين باعتبارها إمكان حدوثها بالشارع التونسي في أي وقت وأي زمان، وغالباً ما تتصدّر أنباء حصيلتها مواضيع وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي.