برهان هلّاك

إندلع حريق يوم الخميس 9 ديسمبر 2021 بالمقر الرئيسي لحزب حركة النهضة في العاصمة تونس وتسبّب بمقتل شخص وإصابة 18 آخرين من بينهم قياديون في الحزب. و ورد في بيان الحركة ما يفيد " اندلاع حريق بالطابق الأرضي لمقرها المركزي بمنطقة ‘مونبليزير’ ظهر يوم الخميس لم تتضح أسبابه بعد". وقد نجم عنه بحسب بعض شهود العيان وفاة أحد مناضلي الحركة بالإضافة إلى أضرار متفاوتة لدى عدد من المتواجدين بمكاتبهم نتيجة النيران والدخان المتصاعد في الطوابق العليا". و أفادت وزارة الداخلية من جهتها في بيان رسمي أن المعطيات الأوليّة تشير إلى " العثور على جثة متفحّمة داخل مقرّ الحركة عائدة لشخص كان قد عمل سابقا كعون استقبال بمقرّ الحزب".

لقد كان مشهد ألسنة النار و أعمدة الدخان المتصاعد من مقر الحزب مشهدا مهيبا. و سارع الناس الذين تصادف وجودهم بالقرب من مقر الحزب في منطقة "مونبليزير" بالعاصمة تونس إلى تصوير مجريات الأحداث تزامنا مع إنطلاق ألسنة اللهب في إلتهام بناية المقر و أثاثه الفاخر و تهديد حياة الموظفين داخل البناية. و بالفعل، فقد تسبّب لهيب النار في جروح و حروق متفاوتة الخطورة لدى بعض قيادات الحزب، على غرار عبد الكريم الهاروني و علي العريض، في حين أحرقت نار اليأس و الخذلان " النهضاوي " سامي السيفي. و إن كانت الشماتة عند الحركات الإسلامية إحدى الثوابت المنتهكة للحس الأخلاقي السليم و تكثيفا لإهتراء الإنسانية و الغيرية عند منتسبي هذه التيارات القصووية، فإننا لا نميل لهكذا خلق سقيم. و إننا نرجو السلامة و العافية للجرحى، و لتنزل رحمة من لدن الله على المتوفى " سامي السيفي " الذي مات مرارا و هو حي، شأنه في ذلك شأن العديد من مناضلي الحركة الإسلامية بتونس الذين أغلقت دونهم أبواب " مكتب شؤون المناضلين " صلب حركة النهضة.

إن في إصابة عبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى حركة النهضة التونسية، في هذا الحادث من المفارقات ما يفيض سخرية قاتمة. لقد أقدم المنتحر على حرق نفسه بمقر الحركة بالعاصمة تونس بعد تسويف و مماطلة و تنكر" لخدماته " طيلة سنين الإستبداد،   و ذلك بعد أن طالعنا السيد عبد الكريم الهاروني في جويلية الماضي (أيام قليلة قبيل إعلان التدابير الإستثنائية بتونس في 25 جويلية 2021) خاطبا في جمع غفير و مطالبا دولة هم حكامها بدفع تعويضات المساجين السياسيين التي تأخرت؛ أما في يوم الخميس المشهود، فقد كان يثني المتوفى النهضاوي سامي السيفي عن عزمه الحرون في لقاء زعيم الحركة، راشد الغنوشي، و ذلك طلبا للإعتراف و الإحترام، إذ يقول أفراد عائلته أنه غير محتاج لإعانة و إسناد مالي كبيرين، بل كان محتاجا إلى موطن شغل يحفظ كرامته. أي مرارة أحسها المتوفى و أي خذلان و إهمال من قبل إخوة ماضي الجهاد؟ 

إن هذا الخذلان هو في حقيقة الأمر قاسم مشترك بين من لم تضمهم دوائر المتنفذين من قيادات الحزب و من لم يصبحُ من المؤلفة قلوبهم من التابعين الخانعين لأمير الحركة، بالإضافة إلى أولئك الذين يذكرون هذه القيادة بماضٍ يرفض الدفن مهما إنهال عليه من أتربة النسيان و المحو؛ لقد إنتهجت حركة النهضة منذ وصولها للحكم، و بالتحديد منذ سنة 2013، نهجا يقوم على تلميع صورة الإسلام السياسي التونسي الذين يبتغونه معتدلا ديمقراطيا يسهل تسويقه و تلقي الدعم من أجل مواءمته مع التوجهات التقدمية و العلمانية في إطار توافق وطني مستقبلي. و إن مساجين الحركة المتورطين في تفجيرات النزل بسوسة و المنستير سنة 1986 و أحداث حرق مقر حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم في تلك الفترة و قتل عون حراسته بمنطقة " باب سويقة " سنة 1991، مثلا، لا يمكنهم أن يكونوا معنيّين بمخرجات مخابر إدغام الإسلام السياسي بالتقدمية و مساعي التأسيس لـ " تناغم سياسي وطني".

أما عن إصابة علي العريض، نائب رئيس حركة النهضة و رئيس الحكومة و وزير الداخلية في سنوات 2012 و 2013، فهي تعيد للأذهان الآية القرآنية عدد 45 من سورة الأنعام و التي يقول فيها الله تعالى "فقُطِعَ دابر الذين ظلموا"؛ إننا و إن أسلفنا الذكر في موضع سابق بأننا حين نحارب الوحوش الأصولية فلا ننحطّ و نصبح أحدها و على شاكلتها في الشماتة و الغبطة لمصاب الغير الجلل، فإننا لا نستطيع إلا استدعاء صور الظلم الذي مارسه علي العريض بالذات على هذا البلد المنكوب و شعبه المغبون أيام كان وزيرا للداخلية. إن العديد ممن أصابهم رصاص بنادق صيد الحيوانات المخصوص (المعروف في تونس بالرشّ) في محافظة سليانة غرب البلاد سنة 2013 لم يستطيعوا أن يشاهدوه و هو متعلق بنافذة من الطابق الثاني و لم يبصروا سقوطه من ذلك العلو الشاهق يوم حادثة احتراق مقر الحركة و ذلك لأن عيونهم قد ذهبت بها البنادق الملقّمة بمادة "الرشّ" المحرّمة دوليًا و التي استعملها أعوان الأمن الذين كانوا يأتمرون بأمره ساعة أن كان وزيرا للداخلية. و لكن، و الحق يقال، فإن ضحاياه هؤلاء قد أبصروا سقطته الأخلاقية و الإنسانية يومي 27 و 28 نوفمبر من سنة 2013، و في وجوههم و على أجسادهم حبات "الرش" التي تروي فصلا من فصول حكاية الظلم و القهر و الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

و إن لاحتراق المقر الرئيسي لحزب حركة النهضة رمزيّة الانهيار، فالحزب كان صرحا فهوى و تناثرت جزيئات عظمته كما يتناثر هباء و رماد أثاث البناية التي تحويه، و كما تتلاشى مشروعية قيادته النضالية و التاريخية؛ لقد حاول رئيس الحزب، راشد الغنوشي، إستثمار هذه   المأساة عبر إلقاء اللوم على الآخرين، علماً و أنّ الضّحية كان يسعى إلى مقابلة الغنوشي قبل إضرام النار في جسده، و لم يستطع إلى ذلك سبيلا. و ذلك دون نسيان محاولات بعض القياديين، و من أبرزهم نور الدين البحيري، التلميح إلى وجود مؤامرة استهدفت مقر الحزب، و ذلك قبل أن تعلن وزارة الداخلية عن حيازتها لتسجيلات كاميرات المراقبة في بهو المقر الرئيسي، أي ساحة الحادثة، التي تظهر المتوفى و هو بصدد سكب المادة الحارقة على جسده، و ذلك في إطار أشغال التحقيق و التقصّي الأمني.

و تتزايد مؤشرات انهيار حركة النهضة، السياسي على الأقل، من خلال الأزمة الداخلية التي تعيش على وقعها مؤسساتها التي طالما كانت مفخرة المنتسبين و القيادات بديمقراطيتها و شرعيتها و تناغمها. و يعيش حزب النهضة التونسي أزمة آخذة في التعاظم في ظل استمرار الاستقالات في صفوفه بعد إعلان 16 عضوا من مجلس شورى الحركة يوم الإثنين 6 ديسمبر 2021 تعليق عضويتهم، بالإضافة إلى استقالة 113 عضوا في أواخر سبتمبر بينهم قيادات هم أيضا نواب في البرلمان المجمد، على خلفية "الإخفاق في معركة الإصلاح الداخلي للحزب" على حد تعبيرهم. و يأتي ذلك في سياق يتنبأ فيه البعض بإمكان إصدار قرار رئاسي بحلّ حزب حركة النهضة بعد اتّهامه بتلقي تمويلات أجنبية غير مشروعة، و ذلك في ذكرى اندلاع الثورة التونسية في 17 ديسمبر.

يقول راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة بتونس، عن المتوفى سامي السيفي أنه "شهيد آخر من شهداء النضال، من أجل تحرير تونس من الظلم والدكتاتورية والفساد والتهميش، وضحية أخرى من ضحايا الفقر"، و يغفل عمدا الإشارة إلى مضي عقد كامل على سقوط النظام الاستبدادي. لقد كان العقد الممتد من 2011 إلى 2021 عقدا عانى فيه المنسيّون من قدامى المنتسبين للحركة، و الشعب التونسي عموما، من استبداد العطشى للديمقراطية؛ يكفي القول بأن أعتى الممارسات الديكتاتورية لم تفتت عزيمة سامي السيفي، و لكن ظلم الإخوان قد نال منه حتى غادر العالم مكويّا بنيران الحيف و نيران أخرى حقيقية.