لنهر النيل علاقة وثيقة مع كل الحضارات المتعاقبة التي شهدتها بلدان حوضه في مختلف العصور ، فنهر النيل الذي يعد النهر الأكثر أهمية في العالم إذ تكمن أهميته في قيمته التاريخية الحضارية التي لا ينازع عليها علاوة على قيمته المادية والاقتصادية فهو الأطول بين كل أنهار العالم و من بين الأكثر غزارة للمياه.
بالطبع قيمة و أهمية و مكانة هذا النهر الخالد ليست في حاجة للتقديم و تعديد نقاط قوته اللامحدودة، و لكن حديث الساعة هذه الأيام لا يمكن إلا أن يقودك للتطرق لسد الألفية الأثيوبي و المعروف بسد ( النهضة) الذي باشرت السلطات الأثيوبية في تنفيذه على النيل الأزرق الرافد الأهم الذي يجلب حوالي 85% من أجمالي مياه النيل المتدفقة إلى السودان و مصر المستفيدتين فعليا من مياه النيل في حين تعتمد بقية دول حوض النيل على مياه الأمطار التي تهطل على معظمها طوال أيام السنة ، و هذا ما جعل هاجس خطر إنشاء أي سد على مختلف روافد النيل يقض مضجع ساسة و مواطنو البلدين المستفيدين بشكل مباشر من مياه النيل.
و إذا كان الإعلان عن تنفيذ هذا المشروع قد بدأ في شهر فبراير 2011، فإن فكرته قديمة حيث طرحت من قبل الأمريكان منذ عام 1964 كمشروع لتوليد الكهرباء في منطقة القرن الأفريقي، و لكن الحضور القوي للدولة المصرية منذ تلك الحقبة و حتى اندلاع ثورة 25 يناير كان المانع الرئيسي أمام السلطات الاثيوبية لتعلن عن قرار إقامة هذا السد.بل أن السلطات الإثيوبية قامت بتغيير مواصفات السد مؤخرا ليصبح ارتفاعه 145مترا بدلا عن90 مترًا ، بخلاف المواصفات العالمية للسدود، وتضاعفت سعة بحيرة خلف السد من 14 مليار م3 إلى 74 مليارم3.
الأول كهرومائيا
ولكن ما يجعل من سد النهضة موضوع الساعة يعود لقيمة و حجم الأثار المترتبة على تنفيذه حيث ينتظر أن يحتجز جسم السد كمية مياه تتراوح بين 62 و 74 مليار متر مكعب من المياه و يولد ( 5.250 ميجاوات) من الطاقة الكهرومائية مما يضع سد النهضة في المرتبة الأولى أفريقيا و العاشرة عالميا من حيث القدرة الكهربائية ، و بذلك تصبح أثيوبيا أكبر دولة مصدرة للطاقة الكهربائية في المنطقة ، و يبلغ أرتفاعه إلى 145 متر وهذا الارتفاع سينتج عنه بحيرة قد يصل طولها إلى 100 كيلومتر و متوسط عرض يقدر بحوالى 10 كيلومتر و بتكلفة مبدئية 4.8مليار دولار يتوقع ان تصل إلى حوالى 8 مليار دولار عند الانتهاء من ملحقاته طبقا لبيانات و معلومات أعلنتها الحكومة الأثيوبية على لسان وزير الري .
" فتش" عن الممول
إذا ما رجعنا إلى التكاليف التي ستتكبدها الحكومة الأثيوبية في سبيل إنشاء هذا السد فإننا سنجد أنفسنا أمام تساؤلات مثيرة تؤدي للبحث عمن يقف وراء إنشائه و لمصلحة من إذ يتوقع الخبراء بأن تصل تكاليف التنفيذ و التكاليف المكملة التي ستترتب على معالجة المشاكل الجيولوجية التي ترتبط عادة بتنفيذ مشاريع الري في الهضبة الأثيوبية قد تتجاوز التكلفة الاجمالية للسد نحو 8 مليار دولار . و السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو من أين لدولة مثل اثيوبيا التي لم تسطع الايفاء بالتزاماتها المالية لاستكمال سد جيبي الذي بدأ العمل فيه منذ العام 2006 و المقدرة تكلفة انشائه بما لا يزيد عن 2 مليار دولار، من اين لها ان تمول مشروع بحجم سد النهضة ما لم تتلقى وعود قد تكون سرية من دول معينة لتمويله؟ و إذا ما ثبتت هذه الفرضية فمن تكون هذه الدول و ما الدافع من وراء ذلك خاصة إذا علمنا ان هذا المشروع ليس استثماريا و لا تجاريا و إن البنك الدولي يرفض تمويل مثل هذه المشاريع لعدم جدواها اقتصاديا ، و ما قد يترتب عليها من مشاكل سياسية بين الدول المتشاطئة على الأنهر.
فوائد منتظرة
-الطاقة الكهرومائية الهائلة و المقدرة بحوالى 5250 ميجاوات هي الأكبر على مستوى القارة الأفريقية بل من العشرة الأكبر عالميا تعتبر الفائدة الأكبر و الأهم التي دعت لتنفيذ السد فهي تتجاوز ما تحتاجه أثيوبيا لتغطي احتياجات الدول المجاورة
-انشاء زراعة جديدة في اثيوبيا تعتمد على الري من مياه السد بدل مياه الأمطار ما يزيد من الناتج الزراعي الذي سيعود على الاقتصاد المحلي في اثيوبيا و على الأمن الغذائي في القارة الأفريقية و العالم
-سيعمل سد النهضة بمثابة خط دفاع متقدم للسدود المنشأة على النيل في كل من السودان و مصر بحجز كميات كبيرة من الطمي الزاحف عليها عبر النيل الأزرق ما يترتب عليه زيادة العمر الافتراضي للسدود السودانية و السد العالي بمصر
-الحد من الفيضانات التي تهدد السودان سنويا في فترات تزايد الأمطار و تخفيف ضغطها على السدود السودانية لا سيما سد الروصيرص
-حجز الكميات الهائلة من المياه في هضبة اثيوبيا على ارتفاعات تتراوح بين 600، 650 متر فوق سطح البحر يقلل من معدلات البخر التي تتهددها في بحيرة ناصر خلف السد العالي في مصر.
أضرار متوقعة
إذا كان لسد النهضة بعض الفوائد المنتظرة و التي قد لا تتحقق بشكل مثالي فإن له اضرارا متوقعة قد تصل في بعض الأحيان إلى مستوى الكارثة ، منها ما يقع في اثيوبيا و منها ما يصيب السودان و مصر و تتمثل هذه الاضرار و الصعوبات في التالي:
-المبالغ الباهضة اللازمة لسد تكاليف إنشاء السد و التي تتجاوز 8 مليار دولار و التي ستضطر السلطات الاثيوبية للبحث عن مصادر تمويل قد تجعل سيادة البلاد رهن لها علاوة على الأثر الاقتصادي الذي ستتركه هذه المبالغ المالية الكبيرة
-القضاء على مناجم المعادن المهمة في منطقة تنفيذ السد و البحيرة العملاقة المنتظر نشوءها جراء حجز المياه خلف السد
-ضياع مساحات زراعية شاسعة تقدر بحوالى 165 ألف هكتار من الأراضي الزراعية التي يصعب تعويضها باراضي أخرى نظرا لصعوبة نقل المياه في تضاريس المنطقة الوعرة علاوة على تهجير سكان المنطقة التي ستتحول إلى البحيرة
-انحدار كفاءة السد بشكل سريع نتيجة الكميات الكبيرة من الطمي التي سيتعرض لها و ما يترتب عليها من مشاكل في محطات توليد الكهرباء ما يعني قصر عمر السد
-نظرا لجيولوجيا مكان إنشاء السد فإن فرضية انهياره واردة بشكل كبير الأمر الذي ينبئ بحلول كارثة على المنطقة باسرها لا سيما في مصر و السودان اللنتي ستتعرضان لفيضانات لا حدود لها لتجرف قرى و مدن بحالها بما في ذلك الخرطوم و مدن أخرى و قد يتعدى الأمر ذلك للتسبب في انهيار السد العالي و ليس لأحد التنبؤ بحجم الكارثة أوبما سيحل بالمنطقة إذا ما حدث مثل هذا السيناريو (لاقدر الله)
-نشؤ البحيرة العملاقة خلف السد سيعمل على ظهور عامل جديد على منطقة ذات خصائص جيولوجية مضطربة نتيجة البناء الصخري المتشقق و الفوالق و الصدوع المكونة لتضاريس المنطقة القريبة من الأخدود الأفريقي الأمر الذي يزيد من احتمالية حدوث زلازل
-طيلة فترة إمتلأ بحيرة السد ستعاني مصر و السودان من إنخفاض كبير في كمية المياه المتدفقة إليها و ما يترتب على ذلك من إنخفاض منسوب المياه و الذي قد يصل لإنقطاعه عن عدة أراضي زراعية ما يؤدي إلى جفافها و نقص الانتاج الزراعي و ضياع فرصة استصلاح مناطق زراعية جديدة
-انخفاض منسوب المياه في منطقة السد العالي بمصر ما يؤدي إلى انخفاض معدلات توليد الكهرباء و الذي سينتج عنه عجز في كميات الطاقة الكهربائية المولدة بالسد العالي
- نجاح أثيوبيا في تنفيذ السد و خرق الأتفاقيات الدولية المنظمة لتوزيع حصص دول حوض النيل سيشجع دول أخرى على الإقدام على خطوات مشابهة الأمر الذي ينبئ بميلاد توترات سياسية قد تتحول إلى نزاعات و حروب مياه مستقبلا.
الواجب التاريخي
بالعودة إلى ما تم سرده و بنظرة محايدة يتضح إن هذا السد الذي تقدمه الحكومة الأثيوبية كمشروع تاريخي بوصفه مشروع الألفية أو سد النهضة و ما يبنى عليه من آمال فإنه في حقيقة الأمر نذير شؤم نظرا للنتائج الكارثية التي ينذر بها و التي ستحل بالمنطقة فهو إن لم يتسبب في زلازل طبيعية و هي متوقعة بشكل كبير ، و إن لم يجرف المدن و القرى السودانية و المصرية جراء إنهياره المتوقع فعليا ، فإنه سيكون بمثابة زلزال في المنطقة إذ يعد بمثابة هزة قوية للعلاقات الطيبة التي سادت بين شعوب المنطقة عبر مختلف الحقب و العصور، وإختراقا صارخا للمعاهدات الدولية التي تنظم توزيع حصص مختلف دول المنبع و المجرى و المصب لحوض النيل و إن كانت هناك أصوات اصبحت تتعالى منذ فترة ليست بالقصيرة من بعض الدول الأفريقية المحتجة على معاهدتي 1929 و 1959 التي تعتمد عليها كل من مصر و السودان في الإحتكام لضمان حقوقها المكتسبة لحصصها من مياه النيل،إلا أن القوانين والنظم و اللوائح الدولية المتطرقة لتوزيع حصص المياه بين الدول المشتركة في الأنهر تؤكد على عدم شرعية تنفيذ أي مشروع في أي من الدول من شأنه إن يعود بالضرر على دولة أخرى و هو الأمر البارز في حالة نهر النهضة الأثيوبي، وبهذا يكون الواجب التاريخي يحتم على السلطات الحالية في جمهورية مصر العربية المتضرر الأكبر من هذا المشروع، و القوة الأهم في المنطقة إن تقف بحزم و تضع وراءها التحديات المرحلية الصغيرة لتتصدى لهذه المشكلة التاريخية التي قد تبدأ صغيرة و لكنها ستجر وراءها نتائج كارثية تطيح بأحلام الاجيال القادمة التي يحتم الواجب التاريخي المحافظة لها على حقوقها ،و بالنظر لما ترتب على هذا المشروع من مشاكل يجعل الدعوة ملحة لمناقشة مشكلة المياه في افريقيا بالكامل حيث تعاني العديد من الدول الافريقية من أزمات مياه خانقة فإن كميات هائلة من مياه أنهار أفريقية تصب في البحار و المحيطات و خير شاهدا على ذلك نهر الكونغو الذي يصب عشرات المليارات المكعبة من المياه العذبة في المحيط الهادي ، و هذا ما يجعل مؤسسات الاتحاد الافريقي أمام واجب تاريخي للوقوف على هذه المشاكل و استغلال المعطيات و الامكانات المتاحة لإعادة النظر في حل مشكلة المياه بشكل نهائي في كامل بقاع القارة الأفريقية.