حول الملف
في إطار الإعداد لملف حول "النخبة"، سنشرع في نشره على حلقات، يسر الأسبوع المغاربي أن تدعو المثقفات والمثقفين إلى المساهمة في إثرائه بمقالاتهم من الزاوية التي يراها كل منهم. وإذ نقترح هذه المحاور، ندعوكن/كم أيضا إلى اقتراح محاور قد تكون غابت عنا:
أولا: ما هو مفهوم النخبة؟ وما هي نظرية النخبة؟
ثانيا: ما هي أنواع النخب؟ وماذا تعني الأنتليجينسيا؟
ثالثا: ما هو الفرق بين النخبة السياسية والطبقة السياسية والطبقة الحاكمة؟
رابعا: كيف حال النخب المغاربية اليوم؟
خامسا: هل للنخب الفكرية المغاربية مسؤولية في تخلف بلدانها؟
سادسا: كيف نقرأ التاريخ الجزائري في ضوء نظرية النخبة من الأمير عبد القادر وحمدان خوجة إلى اليوم (مع تحديد أجيال النخب)؟
سابعا: كيف نقرأ التاريخ التونسي في ضوء نظرية النخبة من خير الدين التونسي إلى اليوم (مع تحديد أجيال النخب)؟
ثامنا: كيف نقرأ التاريخ المغربي في ضوء نظرية النخبة من أحمد بن خالد الناصري إلى اليوم (مع تحديد أجيال النخب)؟
تاسعا: كيف نقرأ التاريخ الليبي في ضوء نظرية النخبة من محمد بن علي السنوسي إلى اليوم (مع تحديد أجيال النخب)؟
عاشرا: كيف نقرأ التاريخ الموريتاني في ضوء نظرية النخبة من الشيخ بكار ولد سويد إلى اليوم (مع تحديد أجيال النخب)؟
............................................................................................................
سعيد هادف: حول نظرية النُّخبة (Elite)
المفهوم والاتجاهات
في المفهوم: تدل كلمة النُّخبة في اللسان العربي على عدد من الأفراد المميزين في مجال مشترك "السُّراة بالتعبير العربي القديم"، أي صفوة ذلك المجال وخيرته. فنخبة القوم تعني خيارهم وصفوتهم (ابن منظور). ومفهوم النخبة من المفاهيم الوافدة على حقل التداول العربي، مترجم عن مفهوم (Elite)، ومعناه في معجم المصطلحات السياسية، أقلية ذات نفوذ أو جاه أو مال أو علم، وتلعب هذه الصفوة دورا قياديا، وسياسيا في إدارة جماعاتها التي تعترف بها بشكل طوعي. في اللسانين الإنكليزي والفرنسي مفهوم النُّخبة (Elite) ينحدر من الفعل اللاتيني (Eligere) (يختـار). وجاء في قاموس أوكسفورد أن النُّخبة (Elite) تطلق على مجموعة قوية من الناس، الفئة الاجتماعية التي يعتقد أنها الأفضل والأهم. ركز الرواد على مفهوم النُّخبة الواحدة؛ ولكن تطورات السوسيولوجيا السياسية أكدت خلاف ذلك؛ لقد أكد كل من سان سيمون وكارل مانهايم وريمون آرون ورايت ميلز على وجود أشكال متعددة من النُّخب، وبيّنوا أن هذه النُّخب تعمل بشكل مشترك، وضمن تصور متجانس على توجيه الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع. روبرت دال (1915-2014- Robert Alan Dahl) رفض أن تكون هناك نخبة واحدة تمتلك كل القوة في المجتمع في الوقت الذي لا تملك فيه بقيته أيا منها. وقد اتضح مفهوم تعدد النُّخب وتبلور في دراسة سوزان كيلر (Killer) المنشورة عام 1963 افترضت وجود نخب استراتيجية (strategic elites)، ثقافية واجتماعية وسياسية تعمل في نطاق المجتمع المدنى وفى الميدان الثقافى دون أن تصل بالضرورة إلى سدة الحكم.
وتحت تأثير هذه التصورات الجديدة حول تعددية النُّخب عمل السوسيولوجي البريطانى الماركسي، رالف ميلياند (Miliband) على تطوير الرؤية الماركسية في مجال العلاقة بين النُّخبة والطبقة، إذ يرى أن الطبقة الحاكمة تتكون من مجموعة من النُّخب السياسية، الاقتصادية والفكرية.... وقد أعطى ميلياند للنخبة السياسية دورا أكثر أهمية، ووصفها بنخبة الدولة (state elite). ويعد بوتومور (T.B Bottomore) صاحب كتاب «الصفوة والمجتمع»، من أبرز المفكرين الذين تحدثوا عن تعدد النُّخب في المجتمع الأمريكي، ويؤكد في هذا المسار أهمية ثلاثة أنماط من النُّخب: المفكرون، مديرو الصناعات، وكبـار المـوظفين الحكـوميين. ويمكن الاستنتاج منطقيا أن النُّخب متنوعة، أهمها: النُّخب الدينية، النُّخب العسكرية، النُّخب الإعلامية والإقتصادية، النُّخب المالية، والعائلية.
النخبة السياسية، وهي التي تضطلع بالدور المركزي والحيوي في توجيه الحياة الاجتماعية وإدارتها. وضمن هذا التصور يرى كثير من المفكرين منذ أفلاطون حتى اليوم أن الحكام يشكلون العقل المدبر لمختلف مظاهر الحياة الاجتماعية. وهناك من الباحثين من يميز اليوم بين مفهوم ''النُّخبة السياسية'' ومفهوم ''الطبقة السياسية''. ويرون أن النخبة السياسية تضم: أعضاء الحكومة، وأعضاء الإدارة العليا، والقادة العسكريين، وفي بعض الحالات الأُسر ذات النفوذ السياسي؛ من أرستقراطية أو من البيت الملكي، وقادة المؤسسات الاقتصادية القوية. أما الثانية أي الطبقة السياسية فتضم: النُّخبة السياسية، لكنها تضم أيضاً النخب المضادَّة المؤلفة من قادة أحزاب سياسية ليست في الحكم، وممثلي مصالح أو طبقات اجتماعية جديدة، كالنقابات مثلاً، وفئات من رجال الأعمال، ورجال الفكر ممن هم فاعلون في الحقل السياسي.
النخبة الدينية، وهي فئة تتمتع بقسط متميز من المعرفة الدينية، تؤهلها للقيام بعدد كبير من الوظائف الدينية كالإفتاء والقضاء والتعليم، ولها سلطتها العلمية والدينية ولها نفوذها على باقي الفئات الأخرى كما لها مصالحها المشتركة وأدوارها. ويرى جورج ليند برغ أن رجال الدين في كل الديانات يمثلون طبقة اجتماعية كاملة، وأهم وظائفها تربية الشباب وتوجيههم وتعليمهم، والحرص على المحافظة على تقاليد المجتمع، والإشراف على ممارستها، وتدعيم القيم والأعراف. ولطالما كانت النُّخبة الدينية شديدة الصلة جدليا بالنخبة السياسية تاريخيا.
فالتداخُل والتشاكل بين الديني والسياسي صبغ تجربة البشرية السياسية منذ القدم، وقد أكدت دراسات على هذا التداخل الوجودي حول العلاقة بين الدين والسلطة، وبيّنت أن المقدّس كان حاضرا دائما في صلب السلطة ومتأصلا في جوهرها ومتماهيا في ممارساتها. وقد شكل موضوع النُّخب ركنا أساسيا في السوسيولوجيا، وأحد عوامل تطورها في الآن ذاته. رانسمان (Runciman) في كتابه "العلوم الاجتماعية والنظرية السياسية» سلط الضوء على نظرية النخبة، موضحا دور منظري النُّخبة في تأسيس السوسيولوجيا، وقد برز هذا المفهوم بقوة في ثلاثينات القرن العشرين في كل من بريطانيا والدول المتحدة الأمريكية واتخذ هيئته العلمية في أعمال الإيطالي فلفريدو باريتو (1848-1923- vilfredo Pareto) في كتابه «العقل والمجتمع» (The Mind and Society)، عام 1916، ومن ثم في أعمال الإيطالي غيتانو موسكا (Gaetano Mosca) (1858-1941) في كتابه «الطبقة الحاكمة» (The Ruling Class). وقد تأثر ميتشل روبرتو (Robert Michels) (1876- 1936) بكل من باريتو وموسكا وسار على نهجهما في كتابه «الأحزاب السياسية» (Political Parties) الذي أصدره عام 1911، وفي هذا الكتاب يقدم رؤية جديدة حول نظرية النخبة والقانون الحديدي الذي يحكم تطور النُّخبة وتفردها في السلطة.
تشارلز رايت ميلز (Mills C. W) أصدر كتاباً عام 1956 عنوانه «نخبة القدرة/السلطة» (The Power Elite) خلص فيه أن النُّخبة تتكون من قادة مجالات الأعمال والحكومة والقوات المسلحة، الذين تربط بينهم مصالح وأصول اجتماعية وقيم متماثلة ضمن دائرة القطاعات التى يهيمنون عليها. وهناك أفكار وآراء عدد من المفكرين الآخرين في هذا المجال مثل: هارولد لازويل، وبوتومور، ورالف داهند روف، وسوزان كيلر، وجيمس بوتنام، ورالف ميليباند. ومن المناسب في هذا السياق الاطلاع على بعض المحاولات التي قدمها بعض المفكرين في مجال تعريف النُّخبة وتحديد معالمها السوسيولوجية.
هناك ثلاث اتجاهات أساسية عالجت المفهوم: الاتجاه السيكولوجي ويمثله باريتو والاتجاه التنظيمي الذي يمثله موسكا وميتشل والاتجاه الاقتصادي الاجتماعي الذي يمثله رايت ميلز.
الاتجاه السيكولوجي: في هذا الاتجاه، يقسم فلفريدو باريتو vilfredo Pareto)) (1848-1923)، المجتمع إلى قسمين: النُّخبة التي تحكم، والمحكومون. النخبة، وفق نظريته، ليست، فقط، نتاجا عن فعالية تاريخية اقتصادية كما يرى ماركس، ولا تستند في قوتها إلى قدراتها التنظيمية على نحو ما ذهب موسكا وميتشل، وليست وليدة بيئة اجتماعية-اقتصادية وفق نظرية ميلز، بل، أيضا، هي نتاج نوع من الخصائص السيكولوجية التي يتمايز من خلالها أفراد المجتمع، والتي أطلق عليها مفهوم الرواسب(Residues). على هذه الخلفية تبرز شريحة ذات ميل فطري، تنزع إلى القيادة وتحقق التفوق في فرض سيادتها وهيمنتها. وبالرغم من أن علم الاقتصاد، في نظره، علم حقيقي وأصيل، إلا أنه ظل يشك في قابليته وقدرته على تفسير السلوك الاقتصادي، لهذا السبب اضطر (باريتو) إلى الاستعانة بالبراديگما السوسيولوجية لمعرفة حقيقة السلوك الاقتصادي والعوامل المؤثرة فيه. وعند قيامه بتحليل الدوافع البشرية للفعل أشار إلى أنَّ الأنشطة الاقتصادية غالباً ما تتأثر بالمصالح المشتركة للجماعة، هذه المصالح تقيد سلوك الفرد وتجعله بعيداً عن الممارسات الفردانية وقريباً من مصالح الجماعة وأهدافها المشتركة. فالنسق الاجتماعي عند (باريتو) أكثر تعقيداً من النسق الاقتصادي، حيث السلوك الاقتصادي الخالص منطقي وينطبق على النماذج السلوكية الأخرى لجوانب الحياة الاجتماعية، لكن السلوك الخالص يأتي من عواطف المصلحة. والمصلحة هي شكل من أشكال الرواسب التي تلعب الدور المؤثر في عملية التوازن الاجتماعي. والمصلحة إنما هي حالة عقلانية تدفع الفرد أو الجماعة إلى الحصول على أكبر كمية من الربح من خلال ربط الوسائل بالأهداف التي أهمها أهداف البقاء والصحة والقوة والرفاهية. وقد برزت في هذا السياق السوسيولوجيا البيولوجية وسعت إلى تفسير السلوك البشري في جانبه البيولوجي.
أدخل باريتو مفهومين جديدين إلى حقل السوسيولوجيا: التسربات(dérivations) والرواسب(résidus)، وأخضع الخطاب الجماهيري (السياسي والديني) إلى التحليل من منطلق أنه خطاب يقدم نفسه في شكل يبدو فيه منطقيا (logique)، وهو خطاب ذو منطق مُنتحَل أو منحول (pseudo logique)، و»إن شروط الحجة التي تصنع مُتسربا جيدا، هي التي غالبا ما تقف على النقيض من تلك التي تصنع تفكيرا جيدا، منطقيا وتجريبيا« كتب باريتو، بعد أن حلل هذه الشروط. إن الخطاب كقاعدة عامة، ومن أجل كسب ود الجمهور، يستهدف العواطف انطلاقا من مقولات (التضامن، الروح القومية الاقتصادية...).
العواطف التي تستند عليها هذه الخطابات، يضعها باريتو تحت اسم »الرواسب«résidus» «، البقايا أو المخلفات: وهذا ما يفضي في الواقع إلى تحليل هذه اللغة، لغة المنطق المنحول (langage pseudo logique)، وهي لغة السياسيين المفضلة؛ تستهدف مشاعر العطاء لدى المتلقي. هذا النوع من الخطاب في نظرية باريتو ليس سوى تسرب/تفرع«dérivation» ، مجرى متفرع عن "الرواسب" أو منشق عنها، يصب في وجدان الناخب، إنه لا شيء سوى دغدغة العواطف.
الاتجاه التنظيمي: يتزعم كل من موسكا وميتشل الاتجاه التنظيمي في مفهوم النخبة. فالقدرة على التنظيم داخل النُّخبة ومرونة التفاعل بين أفرادها يجعل النُّخبة قادرة على امتلاك زمام الأمور والسيطرة.(1858-1941- Mosca Gaetano) نظريته في النُّخب من أهم النظريات وأكثرها أهمية في مجال تفسير الحركة السياسية للسلطة والإدارة المصطفاة في المجتمع، وقد أودع نظريته في كتابه "الطبقة الحاكمة". ويرى موسكا، في هذا السياق، أنه كلما كبرت الجماعة ضعف تنظيمها وتهلهل تماسكها، وإن قلّةً محكمة التنظيم تعرف ما تريد تقود كثرة غير منظمة لا تعرف ما تريد. وعلى خلاف باريتو، يرى موسكا أن النُّخبة الحاكمة تعتمد على تأييد الجماهير ورضاها وهذا ما رفضه باريتو الذي أكد على القطيعة الواضحة بين النُّخبة والجماهير.
روبيرتو ميتشل (Robert Michels) (1876- 1936)، أودع نظريته في كتابه «الأحزاب السياسية» (Political Parties) الذي أصدره عام 1911، وكان ميتشل تلميذا لكل من باريتو وموسكا، وقد انطلق من أعمالهما لتطوير نظريته الجديدة حول النخبة وعلى منوالهما، رأى أن النُّخبة أقلية تحكم الأكثرية في أي مجتمع.
يتفق روبرت ميتشل مع موسكا على أن قوة النُّخبة تكمن في قدرتها العالية على التماسك والتنظيم. ولكن ميتشل حصر دورها في إمكانية دراسة خصائص التنظيمات الاجتماعية الواسعة مثل الأحزاب والنقابات. وضمن هذه الرؤية، رأى ميتشل أن التنظيمات الاجتماعية تتطلب وجود نخبة أو قيادة لعدة أسباب، أهمها: ضرورة تقسيم العمل، الحاجة الي المعرفة المتخصصة، وحاجة المرؤوسين إلى زعامة.
وقد بيّن ميتشل، عبر نظريته، أن النشأة الديمقراطية للأحزاب تتحول بمرور الزمن إلى تنظيمات خاضعة إلى حكم قلة من الأفراد، ورأى أن الديمقراطيا "وهْمٌ"، مجرد قناع تتوسله نخبة أو أقلية تخطف السلطة وتنفرد بها. وفي تناوله لموضوع النُّخبة يرفض ميتشل، كما رفض موسكا من قبل، التفسير الماركسي للتاريخ، ولكنه يقرّ في الوقت نفسه بأهمية العوامل الاقتصادية في إحداث التغير الاجتماعي. وقد تمخضت نظرية ميتشل عن مفهوم البناء الأوليغارشي الحديدي (The Iron of Oligarchy) وعلى هذا الأساس يرى أن الديمقراطيا، بالمعنى الدقيق للكلمة، مستحيلة، لأن الجماهير عاجزة عن الفعل الجمعي ما لم تَقُدْها الأقلية النشطة، والناس تتملكهم الرغبة في الانقياد والحاجة إلى قائد يلتئمون حوله وينجذبون إليه كما تنجذب الذرات المتناثرة إلى بؤرة تلتئم فيها وتتحد. ويبدو أن ميتشل بنى نظريته حول الديمقراطيا في نطاق تحليله للمجتمع السياسي الإيطالي الفاشي وأغفل أن الديمقراطيا ليست مجرد آلية بل هي قيم ثقافية ونمط تفكير وتدبير، وبالتالي هي سيرورة لها قابلية التجدد، وأن تمسك أقلية بزمام القيادة أمرً لا يتناقض مع الديمقراطيا، كما أن العجز ليس في الجماهير بل في النخب التي تتحدث باسمها.
الاتجاه الاجتماعي الاقتصادي: يركز ميلز (Mills C. W) في تحليله لمفهوم "النخبة" على العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وذلك على خلاف ما رأيناه عند باريتو ومسوكو، ويقرن ميلز بين مفهوم النُّخبة ومفهوم القوة، وهو أول من أبدع مفهوم «نخبة القدرة» (Power elite) عام 1956، للدلالة على العلاقة العضوية بين النُّخبة ومختلف أشكال القوة في السياسة والاقتصاد والعسكرة، فالنخبة كما يراها تعني في جوهرها «حيازة القدرة»، وهذا يعني أن ميلز يرفض الاتجاه السيكولوجي في تفسير النُّخبة، ويركز على أهمية العوامل الموضوعية والاقتصادية.
«نخبة القدرة»، في أمريكا منتصف القرن العشرين، أقلية ذات نفوذ تستحوذ على معظم ثروة المجتمع، وتتكون من كبار الموظفين التنفيذيين في الشركات المتحدة، أو الشركات المندمجة وأصحاب الأسهم، وكبار المسؤولين في الحكومة الفدرالية والحكومات المحلية، وكبار رجالات الجيش. ويرى ميلز أن النُّخب تعيش حراكا ضمن دائرة التعاون فيما بينها، بعقد التحالفات، وتشكيل التكتلات، وبناء العلاقات الاجتماعية غير الرسمية: كالصداقة والزواج. فالنخبة وفقا لميلز تشكل نسيجا معقداً من العلاقات والمصالح الاقتصادية والاجتماعية وتشكل هذه النُّخبة في جوهرها قوة تتفرد بالسلطة وتحتكر عناصر القوة. ورغم وجاهة الدراسات التي قاربت مفهوم النخبة، إلا أن ما يحمل اسم النخبة يمكن توصيفه تحت اسم الشبكة ذات المصالح.
مصطفى قطبي: النّخب المغربية هل استقالت...؟
مصطفى قطبي، الباحث وسكرتير تحرير الأسبوع المغاربي، وكاتب رأي ببوابة أفريقيا الإخبارية، فتح مقاله بجملة من التساؤلات: هل تقتصر النخبة على قادة الرأي العام والشخصيّات المؤثرة في تشكيل الاتّجاهات وبلورتها، أم إنها انتقلت اليوم إلى صيغة مختلفة، وفق المفهوم المعاصر، والتعاطي المستجدّ المختلف مع وسائل الاتّصال، في ظلّ الثورة التكنولوجيّة الراهنة، وفي ظلّ التسارع في التلقي والإنتاج...؟ هل يتناسب الكمّ المستعرض مع مقدار التلقي المخمَّن...؟ ألا يخلق التباعد بين المتنصّب في عداد وتعداد النخبة والمتلقي فجوة يصعب تجسيرها بين تلك النخب التي تنشد التأثير، أو تتموضع في خنادقها الدفاعيّة سعياً منها للاحتفاظ بامتيازاتها، ومحاولة التملص من استحقاقات المراحل عليها، وتلك الفئات أو الشرائح التي يفترض بها أنها مصدرها ومرجعها...؟ هل بقي لهذا المصطلح أي أثر إيجابيّ بعد الهوة التي باتت تبعد بين النخبة وقواعدها...؟ أم إنّنا نحمّل النخبة المغربية أكثر من طاقتها وإمكانيّاتها...؟ حين تكلف النخبة نفسها أو يتمّ تكليفها، إلى أي حدّ يمكنها الإيغال في دورها وما القوى التي تمتلكها لتكون رادعة فاعلة...؟ تكليفها مسؤوليّة أم إنه لا يخرج عن إطار التشريف المرغوب فيه لذاته وبذاته...؟ ألم تتحوّل النخبة المغربية من شخصيّات إلى وسائل ومنابر... وأبواق؟ هل يمكن أن تلبَّس شريحة ثوب النخبة دون أن تستشار، لتكون الحيرة بين شتّى الفِكَر من نصيبها لاحقاً...؟!
وحول "النخب المغربية والمصالح"، يرى أنه "لا يخفى أن كلّ شريحة تفرز نخبتها التي تعبّر عن مصالحها وتوجّهاتها، قد يكون الفرز انتخابيّاً أو تراكميّاً". ويرى أن "الحديث عن النخب المغربية بإطلاق حديث ضبابيّ يحتمل الكثير من الأخذ والردّ، يحتمل وجوهاً وآراء كثيرة، وقد يؤدّي إلى نوع من الاختلاف، وحتّى الخلاف، أمّا تخصيص الحديث عن نخبة بعينها، فيركّز المراد ويحدّد المنشود، والمقصود هنا النخبة الثقافيّة، النخبة التي تبدو اليوم في حال يرثى لها، .. لأنّها مشغولة بجدل بيزنطيّ لن ينتهي، جدل يشابه كثيراً حديث البيضة والدجاجة وأيّهما أسبق. .. ولا غرو أن ''النخبة'' الثقافيّة المغربية تتعرّض لشتى أنواع الهجاء من ''نخبةٍ'' فيها ومنها، تعيش معها في عالم الامتياز والتزخرف، لكنها تعرّيها وتفضح سلوكيّاتها الشائنة".
ويلاحظ "أن النخبة الثقافيّة المغربية مفتتة إلى شُلل، والشُلل إلى علل، وكلّ علّة بدورها تنخر في الجسد الثقافيّ، بحيث تنتج صورة غير وفيّة للسموّ الذي يفترض بها أنها تنشده، كما يدرك المتابع أن ترميم العلل ليس بالأمر الهيّن، وسط الاستعداء المستفحل، والصراع على مزايا وامتيازات سرابيّة". ووفق تعبيره "أن النخبة المغربية مطالبة بالتزامات تجاه هذه الفئة أو تلك، فهل تفلح الحيرة في الإيفاء بالالتزامات..؟ هل يكون ذلك لنخبويّتها أم لفئتها التي انفرزت منها والتي يجدر بها تمثيلها لا التمثيل عليها...؟ هل تحيا النخبة الثقافيّة حيرتها المنتجة المبدعة، وتعيش مستمتعة بقلقها الوجوديّ الخلاق، أم إنها لا تعدو التهويل والمبالغة في تلبّس ما لا طاقة لها به، وما لم يكن لها به طاقة في أي يوم..."؟
عبد المجيد بن شاوية: كشف الحجاب فيما بين نخب المغرب من حساب
عبد المجيد بن شاوية: كاتب مغربي، مهتم بالقضايا الفكرية والثقافية وباحث في الشؤون المغاربية، يرى أنه "لا يمكن فهم ما يجري في المغرب إلا من خلال محدودية فاعلية نخبه وسلوكياتها ومواقفها ومبادئها في ارتباط مع كل حقول المجتمع المغربي، وفيما بينها من تناقضات صارخة تصل إلى حد القطيعة الفعلية، بل إلى الضرب تحت الحزام بكل النعوت والأوصاف المخجلة".
وفي حديثه عن مفهوم الحجاب، أحال القارئ على علاقة هذا المفهوم بالحقل الصوفي والتجربة الروحية لدى المؤمن في علاقته بربه دون حجاب، ليؤكد أن المقاربة النقدية هي المقاربة التي تكشف عن الحقيقة في وضع لا ينضبط إلى معايير الشفافية "لينكشف الحجاب بينها أمام مرأى ومسمع القاصي والداني، فتحل بذواتها في واقعها المملوء بكل بالافتراءات والأكاذيب والمغالطات.. في نخبنا المغربية مع استثناءات قليلة جدا، وهو ما تبرهن عليه الآن كل المعطيات على اختلاف مستوياتها". ويرى "أن الكشف عن أحجبة النخب المغربية بداخل دوائر حساباتها يعطينا صورا مكشوفة عن كيفيات وآليات اشتغالها، ومدى صدقيتها".
ناصر جابي: لماذا نجحت النخبة القبائلية في الجزائر؟
ناصر جابي: كاتب جزائري وأستاذ السوسيولوجيا السياسية، يبني سؤاله مستعيدا الحراك القبائلي زمن الحزب الواحد، ربيع 1980. وبعد أن قدم نبذة عن السياق السياسي والأسباب التي فجرت الحراك الشعبي بمنطقة القبايل، يرى أن ذلك الحراك يترجم دينامية النخبة المحلية التي عملت على تأطيره وهي حسب تعبيره "نخبة ريفية فقيرة، عرفت استفادة مبكرة من كل نوع، عن طريق التعليم والتجارة والعمل الصناعي والإداري لاحقا، حوّل أبناء المنطقة إلى رافد مهم وأساسي في تكوين نخبة الجزائر الحديثة، عبرت عن نفسها بداية من الحركة الوطنية التي تميزت بمشاركة نوعية، وكمية لأبناء الجهة داخلها، الشيء نفسه الذي استمر مع حرب التحرير، بما ميزها من حضور لأبناء المنطقة داخل كل أصناف النخب، سواء تعلق الأمر بالنخبة العسكرية منها، أو السياسية والفكرية والفنية، وهي تنتج عقيد جيش التحرير والمناضل السياسي والشاعر والفنان، كما برز مع أسماء فنية مشهورة، من أبناء المنطقة كالمغني إيدير الذي تحول إلى أيقونة فنية أمازيغية، لكل الشمال الافريقي. حضور لأبناء المنطقة عبّر عن نفسه من خلال هذه النخب المتنوعة بكل أطيافها، لم يجلب لها الإعجاب فقط والمنافسة، بل جلب معه كذلك الريبة والشك من هيمنة يراها البعض، في كل مكان، في الإدارة والثكنة والجامعة والإعلام، لأبناء هذه «الأقلية المتنمرة» التي استفادت أكثر من حجمها على حساب نخب وجهات أخرى، حاولت قوى سياسية منافسة تضخيم وجودها ومنحها نوايا سيئة، أقلها أنها جهوية لا تخدم إلا مصالح «دشرتها» إذا لم تُتهم مباشرة بالعمل على تقسيم البلد والتحول إلى «حزب فرنسا» عند البعض، هي التي قادت جزء مهما من حرب التحرير والدفاع عن استقلال البلد الذي دفعت ثمنا غاليا له".
ويرى أن هذه النخبة النوعية نجحت "في الدفاع عن المطلب الأمازيغي بشكل لافت، ليس على الساحة الجزائرية فقط، بل مغاربيا كذلك، تحولت إلى قاطرة له". وهي نخبة وفق ما جاء في المقال، ظلت مستهدفة، وأصبحت "حالة أمازيغية وطنية ارتكزت على مستويات اندماج عالية، ميزت أبناء منطقة القبائل، مثل غيرهم من أبناء المناطق الأمازيغية الأخرى داخل النسيج الاجتماعي الوطني"، "حالة أمازيغية جزائرية، تقول الكثير من المؤشرات أنها في الطريق الصحيح لبناء أمة"، ويخلص صاحب المقال أن هذه الحالة "مشروع يمكن أن يدعمه البناء المغاربي، بعد الوطني، إذا عرف كيف يعود أبناء المنطقة من الأجيال الجديدة إلى هذا المشروع الذي أهملته النخب الرسمية بعد الاستقلال".